يقول تعالى ذكره : وجعلنا على قلوب هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة عند قراءتك عليهم القرآن أكنة ، وهي جمع كنان ، وذلك ما يتغشاها من خذلان الله إياهم عن فهم ما يتلى عليهم ( وفي آذانهم وقرا ) يقول : وجعلنا في آذانهم وقرا عن سماعه ، وصمما ، والوقر بالفتح في الأذن : الثقل . والوقر بالكسر : الحمل . وقوله ( وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ) يقول : وإذا قلت : لا إله إلا الله في القرآن وأنت تتلوه ( ولوا على أدبارهم نفورا ) يقول : انفضوا ، فذهبوا عنك نفورا من قولك استكبارا له واستعظاما من أن يوحد الله تعالى .
وبما قلنا في ذلك ، قال بعض أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا ) وإن المسلمين لما قالوا : لا إله إلا الله ، أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم ، فصافها إبليس وجنوده ، فأبى الله إلا أن يمضيها وينصرها ويفلجها ويظهرها على من ناوأها ، إنها كلمة من خاصم بها فلج ، ومن قاتل بها نصر ، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين ، التي يقطعها الراكب في ليال قلائل ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرون بها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ) قال : بغضا لما تكلم به لئلا يسمعوه ، كما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا [ ص: 459 ] ما يأمرهم به من الاستغفار والتوبة ، ويستغشون ثيابهم ، قال : يلتفون بثيابهم ، ويجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا ولا ينظر إليهم .
وقال آخرون : إنما عني بقوله ( ولوا على أدبارهم نفورا ) الشياطين ، وإنها تهرب من قراءة القرآن ، وذكر الله .
ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن محمد الذارع ، قال : ثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي ، قال : ثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، في قوله ( وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ) هم الشياطين .
والقول الذي قلنا في ذلك أشبه بما دل عليه ظاهر التنزيل ، وذلك أن الله تعالى أتبع ذلك قوله ( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ) فأن يكون ذلك خبرا عنهم أولى إذا كان بخبرهم متصلا من أن يكون خبرا عمن لم يجر له ذكر . وأما النفور ، فإنها جمع نافر ، كما القعود جمع قاعد ، والجلوس جمع جالس; وجائز أن يكون مصدرا أخرج من غير لفظه ، إذ كان قوله ( ولوا ) بمعنى : نفروا ، فيكون معنى الكلام : نفروا نفورا ، كما قال امرؤ القيس :
ورضت فذلت صعبة أي إذلال
إذا كان رضت بمعنى : أذللت ، فأخرج الإذلال من معناه ، لا من لفظه .