[ ص: 504 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ( 72 ) )
اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أشير إليه بقوله : هذه ، فقال بعضهم : أشير بذلك إلى النعم التي عددها تعالى ذكره بقوله ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) فقال ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ) .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا قال : ثنا محمد بن المثنى ، عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن محمد بن أبي موسى ، قال : سئل عن هذه الآية ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ) فقال : قال ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) قال : من عمي عن شكر هذه النعم في الدنيا ، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن قدرة الله فيها وحججه ، فهو في الآخرة أعمى .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن داود ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( ومن كان في هذه أعمى ) يقول : من عمي عن قدرة الله في الدنيا ( فهو في الآخرة أعمى ) .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( في هذه أعمى ) قال : الدنيا .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى ) يقول : من كان في هذه الدنيا أعمى عما عاين فيها من نعم الله وخلقه وعجائبه ( فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ) فيما يغيب عنه من أمر الآخرة وأعمى . [ ص: 505 ]
حدثنا محمد ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( ومن كان في هذه أعمى ) في الدنيا فيما أراه الله من آياته من خلق السماوات والأرض والجبال والنجوم ( فهو في الآخرة ) الغائبة التي لم يرها ( أعمى وأضل سبيلا ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وسئل عن قول الله تعالى ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ) فقرأ ( إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين ) ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) وقرأ ( ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ) وقرأ حتى بلغ ( وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ) قال : كل له مطيعون ، إلا ابن آدم . قال : فمن كانت في هذه الآيات التي يعرف أنها منا ، ويشهد عليها وهو يرى قدرتنا ونعمتنا أعمى ، فهو في الآخرة التي لم يرها أعمى وأضل سبيلا .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن حجج الله على أنه المنفرد بخلقها وتدبيرها ، وتصريف ما فيها ، فهو في أمر الآخرة التي لم يرها ولم يعاينها ، وفيما هو كائن فيها أعمى وأضل سبيلا يقول : وأضل طريقا منه في أمر الدنيا التي قد عاينها ورآها .
وإنما قلنا : ذلك أولى تأويلاته بالصواب ، لأن الله تعالى ذكره لم يخصص في قوله ( ومن كان في هذه ) الدنيا ( أعمى ) عمى الكافر به عن بعض حججه عليه فيها دون بعض ، فيوجه ذلك إلى عماه عن نعمه بما أنعم به عليه من تكريمه بني آدم ، وحمله إياهم في البر والبحر ، وما عدد في الآية التي ذكر فيها نعمه عليهم ، بل عم بالخبر عن عماه في الدنيا ، فهم كما عم تعالى ذكره .
واختلف القراء في قراءة قوله ( فهو في الآخرة أعمى ) فكسرت القرأة جميعا أعني الحرف الأول قوله ( ومن كان في هذه أعمى ) . وأما قوله ( فهو في الآخرة أعمى ) فإن عامة قراء الكوفيين أمالت أيضا قوله ( فهو في الآخرة أعمى ) وأما بعض قراء البصرة فإنه فتحه ، وتأوله بمعنى : فهو في الآخرة أشد عمى ، واستشهد لصحة قراءته بقوله ( وأضل سبيلا ) . [ ص: 506 ]
وهذه القراءة هي أولى القراءتين في ذلك بالصواب للشاهد الذي ذكرنا عن قارئه كذلك ، وإنما كره من كره قراءته كذلك ظنا منه أن ذلك مقصود به قصد عمى العينين الذي لا يوصف أحد بأنه أعمى من آخر أعمى ، إذ كان عمى البصر لا يتفاوت ، فيكون أحدهما أزيد عمى من الآخر ، إلا بإدخال : أشد أو أبين ، فليس الأمر في ذلك كذلك .
وإنما قلنا : ذلك من عمى القلب الذي يقع فيه التفاوت ، فإنما عني به عمى قلوب الكفار ، عن حجج الله التي قد عاينتها أبصارهم ، فلذلك جاز ذلك وحسن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( فهو في الآخرة أعمى ) قال : أعمى عن حجته في الآخرة .