قال أبو جعفر : يعني جل ذكره بقوله : ( قل فلم تقتلون أنبياء الله ) ، قل يا محمد ، ليهود بني إسرائيل - الذين إذا قلت لهم : آمنوا بما أنزل الله قالوا : نؤمن بما أنزل علينا - : لم تقتلون - إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنزل الله عليكم - أنبياءه ، وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم ، بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم؟ وذلك من الله جل ثناؤه تكذيب لهم في قولهم : ( نؤمن بما أنزل علينا ) وتعيير لهم ، كما : -
1560 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن قال : قال الله تعالى ذكره - وهو يعيرهم - يعني السدي اليهود : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ) ؟
فإن قال قائل : وكيف قيل لهم : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) ، فابتدأ الخبر على لفظ المستقبل ، ثم أخبر أنه قد مضى؟
قيل : إن أهل العربية مختلفون في تأويل ذلك . فقال بعض البصريين : معنى [ ص: 351 ] ذلك : فلم قتلتم أنبياء الله من قبل ، كما قال جل ثناؤه : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين ) [ سورة البقرة : 102 ] ، أي : ما تلت ، وكما قال الشاعر :
ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت عنه وقلت لا يعنيني
يريد بقوله : "ولقد أمر " ولقد مررت . واستدل على أن ذلك كذلك ، بقوله : "فمضيت عنه " ، ولم يقل : فأمضي عنه . وزعم أن "فعل " و"يفعل " قد تشترك في معنى واحد ، واستشهد على ذلك بقول الشاعر :
وإني لآتيكم تشكر ما مضى من الأمر ، واستيجاب ما كان في غد
يعني بذلك : ما يكون في غد ، وبقول الحطيئة :
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر
يعني : يشهد . وكما قال الآخر :
فما أضحي ولا أمسيت إلا أراني منكم في كوفان
فقال : أضحي ، ثم قال : "ولا أمسيت " .
وقال بعض نحويي الكوفيين : إنما قيل : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) ، فخاطبهم بالمستقبل من الفعل ، ومعناه الماضي ، كما يعنف الرجل الرجل على ما سلف منه من فعل فيقول له : ويحك ، لم تكذب؟ ولم تبغض نفسك إلى الناس؟ كما قال الشاعر :
[ ص: 353 ]
إذا ما انتسبنا ، لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقري به بدا
فالجزاء للمستقبل ، والولادة كلها قد مضت . وذلك أن المعنى معروف ، فجاز ذلك . قال : ومثله في الكلام : "إذا نظرت في سيرة عمر ، لم تجده يسيء " . المعنى : لم تجده أساء . فلما كان أمر عمر لا يشك في مضيه ، لم يقع في الوهم أنه مستقبل ؛ فلذلك صلحت "من قبل " مع قوله : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) . قال : وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة ، إنما قتل الأنبياء أسلافهم الذين مضوا ، فتولوهم على ذلك ورضوا به ، فنسب القتل إليهم .
قال أبو جعفر : والصواب فيه من القول عندنا ، أن الله خاطب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل - بما خاطبهم في سورة البقرة وغيرها من سائر السور - بما سلف من إحسانه إلى أسلافهم ، وبما سلف من كفران أسلافهم نعمه ، وارتكابهم معاصيه ، واجترائهم عليه وعلى أنبيائه ، وأضاف ذلك إلى المخاطبين به ، نظير قول العرب بعضها لبعض : فعلنا بكم يوم كذا كذا وكذا ، وفعلتم بنا يوم كذا كذا وكذا - على نحو ما قد بيناه في غير موضع من كتابنا هذا - ، يعنون بذلك أن أسلافنا فعلوا ذلك بأسلافكم ، وأن أوائلنا فعلوا ذلك بأوائلكم . فكذلك ذلك في قوله : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) ، إذ كان قد خرج على لفظ الخبر عن المخاطبين به خبرا من الله تعالى ذكره عن [ ص: 354 ] فعل السالفين منهم - على نحو الذي بينا - جاز أن يقال : "من قبل " ؛ إذ كان معناه : قل : فلم يقتل أسلافكم أنبياء الله من قبل "؟ وكان معلوما بأن قوله : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) ، إنما هو خبر عن فعل سلفهم .
وتأويل قوله : ( من قبل ) ، أي : من قبل اليوم .
وأما قوله : ( إن كنتم مؤمنين ) ، فإنه يعني : إن كنتم مؤمنين بما نزل الله عليكم كما زعمتم . وإنما عنى بذلك اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم - إن كانوا وكنتم ، كما تزعمون أيها اليهود ، مؤمنين . وإنما عيرهم جل ثناؤه بقتل أوائلهم أنبياءه ، عند قولهم حين قيل لهم : ( آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ) ؛ لأنهم كانوا لأوائلهم - الذين تولوا قتل أنبياء الله ، مع قيلهم : نؤمن بما أنزل علينا - متولين ، وبفعلهم راضين . فقال لهم : إن كنتم كما تزعمون مؤمنين بما أنزل عليكم ، فلم تتولون قتلة أنبياء الله؟ أي : ترضون أفعالهم .