القول في تأويل قوله تعالى : ( إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا    ( 10 ) ) 
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد  صلى الله عليه وسلم أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا   ) حين أوى الفتية أصحاب الكهف  إلى كهف الجبل ، هربا بدينهم إلى الله ، فقالوا إذ أووه : ( ربنا آتنا من لدنك رحمة   ) رغبة منهم إلى ربهم ، في أن يرزقهم من عنده رحمة ، وقوله وهيئ لنا من أمرنا رشدا   )  [ ص: 605 ] يقول : وقالوا : يسر لنا بما نبتغي وما نلتمس من رضاك والهرب من الكفر بك ، ومن عبادة الأوثان التي يدعونا إليها قومنا ، ( رشدا ) يقول : سدادا إلى العمل بالذي تحب . 
وقد اختلف أهل العلم في سبب مصير هؤلاء الفتية إلى الكهف الذي ذكره الله في كتابه ، فقال بعضهم : كان سبب ذلك ، أنهم كانوا مسلمين على دين عيسى ،  وكان لهم ملك عابد وثن ، دعاهم إلى عبادة الأصنام ، فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عن دينهم ، أو يقتلهم ، فاستخفوا منه في الكهف . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا ابن حميد ،  قال : ثنا الحكم بن بشير ،  قال : ثنا عمرو  في قوله : ( أصحاب الكهف والرقيم    ) كانت الفتية على دين عيسى  على الإسلام ، وكان ملكهم كافرا ، وقد أخرج لهم صنما ، فأبوا ، وقالوا : ( ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا   ) قال : فاعتزلوا عن قومهم لعبادة الله ، فقال أحدهم : إنه كان لأبي كهف يأوي فيه غنمه ، فانطلقوا بنا نكن فيه ، فدخلوه ، وفقدوا في ذلك الزمان فطلبوا ، فقيل : دخلوا هذا الكهف ، فقال قومهم : لا نريد لهم عقوبة ولا عذابا أشد من أن نردم عليهم هذا الكهف ، فبنوه عليهم ثم ردموه ، ثم إن الله بعث عليهم ملكا على دينعيسى ،  ورفع ذلك البناء الذي كان ردم عليهم ، فقال بعضهم لبعض : ( كم لبثتم   ) ؟ ( فقالوا لبثنا يوما أو بعض يوم   ) حتى بلغ ( فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة   ) وكان ورق ذلك الزمان كبارا ، فأرسلوا أحدهم يأتيهم بطعام وشراب ، فلما ذهب ليخرج ، رأى على باب الكهف شيئا أنكره ، فأراد أن يرجع ، ثم مضى حتى دخل المدينة ، فأنكر ما رأى ، ثم أخرج درهما ، فنظروا إليه فأنكروه ، وأنكروا الدرهم ، وقالوا : من أين لك هذا ، هذا من ورق غير هذا الزمان ، واجتمعوا عليه يسألونه ، فلم يزالوا به حتى انطلقوا به إلى ملكهم  [ ص: 606 ] ، وكان لقومهم لوح يكتبون فيه ما يكون ، فنظروا في ذلك اللوح ، وسأله الملك ، فأخبره بأمره ، ونظروا في الكتاب متى فقد ، فاستبشروا به وبأصحابه ، وقيل له : انطلق بنا فأرنا أصحابك ، فانطلق وانطلقوا معه ، ليريهم ، فدخل قبل القوم ، فضرب على آذانهم ، فقال الذين غلبوا على أمرهم : ( لنتخذن عليهم مسجدا   ) . 
حدثنا ابن حميد ،  قال : ثنا سلمة ،  عن ابن إسحاق ،  قال : مرج أمر أهل الإنجيل  وعظمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك ، حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وفيهم على ذلك بقايا على أمر عيسى ابن مريم ،  متمسكون بعبادة الله وتوحيده ، فكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ، ملك من الروم  يقال له : دقينوس ،  كان قد عبد الأصنام ، وذبح للطواغيت ، وقتل من خالفه في ذلك ممن أقام على دين عيسى ابن مريم  ، كان ينزل في قرى الروم ،  فلا يترك في قرية ينزلها أحدا ممن يدين بدين عيسى ابن مريم  إلا قتله ، حتى يعبد الأصنام ، ويذبح للطواغيت ، حتى نزل دقينوس  مدينة الفتية أصحاب الكهف ،  فلما نزلها دقينوس  كبر ذلك على أهل الإيمان ، فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه . وكان دقينوس  قد أمر حين قدمها أن يتبع أهل الإيمان فيجمعوا له ، واتخذ شرطا من الكفار من أهلها ، فجعلوا يتبعون أهل الإيمان في أماكنهم التي يستخفون فيها ، فيستخرجونهم إلى دقينوس ،  فقدمهم إلى المجامع التي يذبح فيها للطواغيت فيخيرهم بين القتل ، وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت ، فمنهم من يرغب في الحياة ويفظع بالقتل فيفتتن . ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل ، فلما رأى ذلك أهل الصلابة من أهل الإيمان بالله ، جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل ، فيقتلون ويقطعون ، ثم يربط ما قطع من أجسادهم ، فيعلق على سور المدينة من نواحيها كلها ، وعلى كل باب من أبوابها ، حتى عظمت الفتنة على أهل الإيمان ، فمنهم من كفر فترك ، ومنهم من صلب على دينه فقتل ، فلما رأى ذلك الفتية أصحاب الكهف ،  حزنوا حزنا شديدا ، حتى تغيرت ألوانهم ،  [ ص: 607 ] ونحلت أجسامهم ، واستعانوا بالصلاة والصيام والصدقة ، والتحميد ، والتسبيح ، والتهليل ، والتكبير ، والبكاء ، والتضرع إلى الله ، وكانوا فتية أحداثا أحرارا من أبناء أشراف الروم   . 
فحدثنا ابن حميد ،  قال : ثنا سلمة ،  عن ابن إسحاق ،  عن عبد الله بن أبي نجيح ،  عن مجاهد ،  قال : لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة أسنانه وضح الورق ، قال ابن عباس   : فكانوا كذلك في عبادة الله ليلهم ونهارهم ، يبكون إلى الله ، ويستغيثونه ، وكانوا ثمانية نفر   : مكسلمينا ،  وكان أكبرهم ، وهو الذي كلم الملك عنهم ، ومحسيميلنينا ،  ويمليخا ،  ومرطوس ،  وكشوطوش ،  وبيرونس ،  ودينموس ،  ويطونس قالوس  فلما أجمع دقينوس  أن يجمع أهل القرية لعبادة الأصنام ، والذبح للطواغيت ، بكوا إلى الله وتضرعوا إليه ، وجعلوا يقولون : اللهم رب السماوات والأرض ، لن ندعو من دونك إلها ( لقد قلنا إذا شططا   ) اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وادفع عنهم البلاء وأنعم على عبادك الذين آمنوا بك ، ومنعوا عبادتك إلا سرا ، مستخفين بذلك ، حتى يعبدوك علانية ، فبينما هم على ذلك ، عرفهم عرفاؤهم من الكفار ، ممن كان يجمع أهل المدينة لعبادة الأصنام ، والذبح للطواغيت ، وذكروا أمرهم ، وكانوا قد خلوا في مصلى لهم يعبدون الله فيه ، ويتضرعون إليه ، ويتوقعون أن يذكروا لدقينوس ،  فانطلق أولئك الكفرة حتى دخلوا عليهم مصلاهم ، فوجدوهم سجودا على وجوههم يتضرعون ، ويبكون ، ويرغبون إلى الله أن ينجيهم من دقينوس وفتنته ، فلما رآهم أولئك الكفرة من عرفائهم قالوا لهم : ما خلفكم عن أمر الملك؟ انطلقوا إليه! ثم خرجوا من عندهم ، فرفعوا أمرهم إلى دقينوس ،  وقالوا : تجمع الناس للذبح لآلهتك ، وهؤلاء فتية من أهل بيتك ، يسخرون منك ، ويستهزئون بك ، ويعصون أمرك ، ويتركون آلهتك ، يعمدون إلى مصلى لهم ولأصحاب عيسى ابن مريم  يصلون فيه ، ويتضرعون إلى إلههم وإله عيسى  وأصحاب عيسى ،  فلم تتركهم يصنعون هذا وهم بين ظهراني  [ ص: 608 ] سلطانك وملكك ، وهم ثمانية نفر : رئيسهم مكسلمينا ،  وهم أبناء عظماء المدينة؟ فلما قالوا ذلك لدقينوس ،  بعث إليهم ، فأتي بهم من المصلى الذي كانوا فيه تفيض أعينهم من الدموع معفرة وجوههم في التراب ، فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض ، وأن تجعلوا أنفسكم أسوة لسراة أهل مدينتكم ، ولمن حضر منا من الناس؟ اختاروا مني : إما أن تذبحوا لآلهتنا كما ذبح الناس ، وإما أن أقتلكم! فقالمكسلمينا   : إن لنا إلها نعبده ملأ السماوات والأرض عظمته ، لن ندعو من دونه إلها أبدا ، ولن نقر بهذا الذي تدعونا إليه أبدا ، ولكنا نعبد الله ربنا ، له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصا أبدا ، إياه نعبد ، وإياه نسأل النجاة والخير . فأما الطواغيت وعبادتها ، فلن نقر بها أبدا ، ولسنا بكائنين عبادا للشياطين ، ولا جاعلي أنفسنا وأجسادنا عبادا لها ، بعد إذ هدانا الله له رهبتك ، أو فرقا من عبودتك ، اصنع بنا ما بدا لك ، ثم قال أصحاب مكسلمينا  لدقينوس  مثل ما قال ، قال : فلما قالوا ذلك له ، أمر بهم فنزع عنهم لبوس كان عليهم من لبوس عظمائهم ، ثم قال : أما إذ فعلتم ما فعلتم فإني سأؤخركم أن تكونوا من أهل مملكتي وبطانتي ، وأهل بلادي ، وسأفرغ لكم ، فأنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة ، وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلا أني أراكم فتيانا حديثة أسنانكم ، ولا أحب أن أهلككم حتى أستأني بكم ، وأنا جاعل لكم أجلا تذكرون فيه ، وتراجعون عقولكم ، ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة ، فنزعت عنهم ، ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده ، وانطلق دقينوس  مكانه إلى مدينة سوى مدينتهم التي هم بها قريبا منها لبعض ما يريد من أمره . 
فلما رأى الفتية دقينوس  قد خرج من مدينتهم بادروا قدومه ، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكر بهم ، فأتمروا بينهم أن يأخذ كل واحد منهم نفقة من بيت أبيه ، فيتصدقوا منها ، ويتزودوا بما بقي ، ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له : بنجلوس  فيمكثوا فيه ، ويعبدوا الله حتى إذا رجع دقينوس  أتوه فقاموا بين يديه ، فيصنع بهم ما شاء ، فلما قال ذلك بعضهم لبعض ، عمد كل فتى منهم ، فأخذ من بيت أبيه نفقة ، فتصدق منها ، وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم ، واتبعهم كلب لهم ، حتى أتوا ذلك الكهف ، الذي في ذلك الجبل ، فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد ، ابتغاء  [ ص: 609 ] وجه الله تعالى ، والحياة التي لا تنقطع ، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له يمليخا ، فكان على طعامهم ، يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرا من أهلها ، وذلك أنه كان من أجملهم وأجلدهم ، فكان يمليخا يصنع ذلك ، فإذا دخل المدينة يضع ثيابا كانت عليه حسانا ، ويأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها ، ثم يأخذ ورقه ، فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاما وشرابا ، ويتسمع ويتجسس لهم الخبر ، هل ذكر هو وأصحابه بشيء في ملإ المدينة ، ثم يرجع إلى أصحابه بطعامهم وشرابهم ، ويخبرهم بما سمع من أخبار الناس ، فلبثوا بذلك ما لبثوا ، ثم قدم دقينوس  الجبار المدينة التي منها خرج إلى مدينته ، وهي مدينة أفموس  ، فأمر عظماء أهلها ، فذبحوا للطواغيت ، ففزع في ذلك أهل الإيمان ، فتخبئوا في كل مخبأ ، وكان يمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم ببعض نفقتهم ، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل ، فأخبرهم أن الجبار دقينوس  قد دخل المدينة ، وأنهم قد ذكروا وافتقدوا والتمسوا مع عظماء أهل المدينة ليذبحوا للطواغيت ، فلما أخبرهم بذلك ، فزعوا فزعا شديدا ، ووقعوا سجودا على وجوههم يدعون الله ، ويتضرعون إليه ، ويتعوذون به من الفتنة ، ثم إن يمليخا  قال لهم : يا إخوتاه ، ارفعوا رءوسكم ، فاطعموا من هذا الطعام الذي جئتكم به ، وتوكلوا على ربكم ، فرفعوا رءوسهم ، وأعينهم تفيض من الدمع حذرا وتخوفا على أنفسهم ، فطعموا منه ، وذلك مع غروب الشمس ، ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون ، ويذكر بعضهم بعضا على حزن منهم ، مشفقين مما أتاهم به صاحبهم من الخبر ، فبينا هم على ذلك ، إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف سنين عددا ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، فأصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون موقنون ، مصدقون بالوعد ، ونفقتهم موضوعة عندهم ، فلما كان الغد فقدهم دقينوس ،  فالتمسهم فلم يجدهم ، فقال لعظماء أهل المدينة : لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا ، لقد كانوا يظنون أن بي غضبا عليهم فيما صنعوا في أول شأنهم ، لجهلهم ما جهلوا من أمري ، ما كنت لأجهل عليهم في نفسي ، ولا أؤاخذ أحدا منهم بشيء إن هم تابوا وعبدوا آلهتي ، ولو فعلوا لتركتهم ، وما عاقبتهم بشيء سلف منهم ، فقال له عظماء أهل المدينة : ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مردة عصاة ، مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم ، وقد كنت أجلتهم  [ ص: 610 ] أجلا وأخرتهم عن العقوبة التي أصبت بها غيرهم ، ولو شاءوا لرجعوا في ذلك الأجل ، ولكنهم لم يتوبوا ولم ينزعوا ولم يندموا على ما فعلوا ، وكانوا منذ انطلقت يبذرون أموالهم بالمدينة ، فلما علموا بقدومك فروا فلم يروا بعد ، فإن أحببت أن تؤتى بهم ، فأرسل إلى آبائهم فامتحنهم ، واشدد عليهم يدلوك عليهم ، فإنهم مختبئون منك ، فلما قالوا ذلك لدقينوس الجبار ، غضب غضبا شديدا . ثم أرسل إلى آبائهم ، فأتي بهم فسألهم عنهم وقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوا أمري ، وتركوا آلهتي ، ائتوني بهم ، وأنبئوني بمكانهم ، فقال له آباؤهم : أما نحن فلم نعص أمرك ولم نخالفك ، قد عبدنا آلهتك وذبحنا لهم ، فلم تقتلنا في قوم مردة ؟ قد ذهبوا بأموالنا فبذروها وأهلكوها في أسواق المدينة ، ثم انطلقوا ، فارتقوا في جبل يدعى بنجلوس ،  وبينه وبين المدينة أرض بعيدة هربا منك ، فلما قالوا ذلك خلى سبيلهم ، وجعل يأتمر ماذا يصنع بالفتية ، فألقى الله عز وجل في نفسه أن يأمر بالكهف فيسد عليهم كرامة من الله ، أراد أن يكرمهم ، ويكرم أجساد الفتية ، فلا يجول ، ولا يطوف بها شيء ، وأراد أن يحييهم ، ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم ، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور   . فأمر دقينوس  بالكهف أن يسد عليهم ، وقال : دعوا هؤلاء الفتية المردة الذين تركوا آلهتي فليموتوا كما هم في الكهف عطشا وجوعا ، وليكن كهفهم الذي اختاروا لأنفسهم قبرا لهم ، ففعل بهم ذلك عدو الله ، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم ، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، قد غشاه الله ما غشاهم ، يقلبون ذات اليمين وذات الشمال ، ثم إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقينوس  يكتمان إيمانهما : اسم أحدهما بيدروس ،  واسم الآخر : روناس  ، فأتمرا أن يكتبا شأن الفتية أصحاب الكهف ، أنسابهم وأسماءهم وأسماء آبائهم ، وقصة خبرهم في لوحين من رصاص ، ثم يصنعا له تابوتا من نحاس ، ثم يجعلا اللوحين فيه ، ثم يكتبا عليه في فم الكهف بين ظهراني البنيان ، ويختما على التابوت بخاتمهما ، وقالا لعل الله أن يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة ، فيعلم من فتح عليهم حين يقرأ هذا الكتاب خبرهم ، ففعلا ثم بنيا عليه في البنيان ، فبقي دقينوس  وقرنه الذين كانوا منهم ما شاء الله أن يبقوا ، ثم هلك دقينوس  والقرن الذي كانوا معه ،  [ ص: 611 ] وقرون بعده كثيرة ، وخلفت الخلوف بعد الخلوف . 
حدثنا القاسم ،  قال : ثنا الحسين ،  قال : ثني حجاج ،  عن  ابن جريج ،  عن عبد الله بن كثير ،  عن مجاهد ،  قال : كان أصحاب الكهف  أبناء عظماء مدينتهم ، وأهل شرفهم ، فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد ، فقال رجل منهم هو أسنهم : إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أن أحدا يجده ، قالوا : ماذا تجد؟ قال : أجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض ، وقالوا : نحن نجد ، فقاموا جميعا ، فقالوا : ( ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا   ) فاجتمعوا أن يدخلوا الكهف ، وعلى مدينتهم إذ ذاك جبار يقال له دقينوس ،  فلبثوا في الكهف ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا رقدا . 
حدثنا ابن حميد ،  قال : ثنا سلمة ،  عن عبد العزيز بن أبي رواد ،  عن عبد الله بن عبيد بن عمير ،  قال : كان أصحاب الكهف  فتيانا ملوكا مطوقين مسورين ذوي ذوائب ، وكان معهم كلب صيدهم ، فخرجوا في عيد لهم عظيم في زي وموكب ، وأخرجوا معهم آلهتم التي يعبدون ، وقذف الله في قلوب الفتية الإيمان فآمنوا ، وأخفى كل واحد منهم الإيمان عن صاحبه ، فقالوا في أنفسهم من غير أن يظهر إيمان بعضهم لبعض : نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم ، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة ، فجلس فيه ، ثم خرج آخر فرآه جالسا وحده ، فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر منه ، فجاء حتى جلس إليه ، ثم خرج الآخرون ، فجاءوا حتى جلسوا إليهما ، فاجتمعوا ، فقال بعضهم : ما جمعكم؟ وقال آخر : بل ما جمعكم؟ وكل يكتم إيمانه من صاحبه مخافة على نفسه ، ثم قالوا : ليخرج منكم فتيان ، فيخلوا ، فيتواثقا أن لا يفشي واحد منهما على صاحبه ، ثم يفشي كل واحد منهما لصاحبه أمره ، فإنا نرجو أن نكون على أمر واحد ، فخرج فتيان منهم فتواثقا ، ثم تكلما ، فذكر كل واحد منهما أمره لصاحبه ، فأقبلا مستبشرين إلى أصحابهما قد اتفقا على أمر واحد ، فإذا هم جميعا على الإيمان ، وإذا كهف في الجبل قريب منهم ، فقال بعضهم لبعض : ائتوا إلى الكهف ( ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا   )  [ ص: 612 ] فدخلوا الكهف ، ومعهم كلب صيدهم فناموا ، فجعله الله عليهم رقدة واحدة ، فناموا ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ، قال : وفقدهم قومهم فطلبوهم وبعثوا البرد ، فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم ، فلما لم يقدروا عليهم كتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح : فلان ابن فلان ، وفلان ابن فلان أبناء ملوكنا ، فقدناهم في عيد كذا وكذا في شهر كذا وكذا في سنة كذا وكذا ، في مملكة فلان ابن فلان ، ورفعوا اللوح في الخزانة ، فمات ذلك الملك وغلب عليهم ملك مسلم مع المسلمين ، وجاء قرن بعد قرن ، فلبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا . 
وقال آخرون : بل كان مصيرهم إلى الكهف هربا من طلب سلطان كان طلبهم بسبب دعوى جناية ادعى على صاحب لهم أنه جناها . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا الحسن بن يحيى ،  قال : أخبرنا عبد الرزاق ،  قال : أخبرنا معمر ،  قال : أخبرني إسماعيل بن شروس ،  أنه سمع  وهب بن منبه  يقول : جاء حواري عيسى ابن مريم  إلى مدينة أصحاب الكهف ،  فأراد أن يدخلها ، فقيل له : إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلا سجد له ، فكره أن يدخلها ، فأتى حماما ، فكان فيه قريبا من تلك المدينة ، فكان يعمل فيه يؤاجر نفسه من صاحب الحمام ، ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة ودر عليه الرزق ، فجعل يعرض عليه الإسلام ، وجعل يسترسل إليه ، وعلقه فتية من أهل المدينة ، وجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الآخرة ، حتى آمنوا به وصدقوه ، وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة ، وكان يشترط على صاحب الحمام أن الليل لي لا تحول بيني وبين الصلاة إذا حضرت ، فكان على ذلك حتى جاء ابن الملك بامرأة ، فدخل بها الحمام ، فعيره الحواري ، فقال : أنت ابن الملك ، وتدخل معك هذه النكداء ، فاستحيا ، فذهب فرجع مرة أخرى ، فقال له مثل ذلك ، فسبه وانتهره ولم يلتفت حتى دخل ودخلت معه المرأة ، فماتا في الحمام جميعا ، فأتي الملك ، فقيل له : قتل صاحب الحمام ابنك ، فالتمس ، فلم يقدر عليه هربا ، قال : من كان يصحبه؟ فسموا الفتية ، فالتمسوا ، فخرجوا من المدينة ، فمروا بصاحب لهم في زرع له ، وهو على مثل  [ ص: 613 ] أمرهم ، فذكروا أنهم التمسوا ، فانطلق معهم الكلب ، حتى أواهم الليل إلى الكهف ، فدخلوه ، فقالوا : نبيت هاهنا الليلة ، ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم ، فضرب على آذانهم ، فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف ، فكلما أراد رجل أن يدخل أرعب ، فلم يطق أحد أن يدخله ، فقال قائل : أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم؟ قال : بلى ، قال : فابن عليهم باب الكهف ، ودعهم فيه يموتوا عطشا وجوعا ، ففعل . 
				
						
						
