القول في تأويل قوله تعالى : ( واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا    ( 16 ) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا   ( 17 ) ) 
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد  صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد  في كتاب الله الذي أنزله عليك بالحق مريم ابنة عمران  ، حين اعتزلت من أهلها ، وانفردت عنهم ، وهو افتعل من النبذ ، والنبذ : الطرح ، وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا بشر ،  قال : ثنا يزيد ،  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة ،  في قوله ( واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت   ) أي انفردت من أهلها  . 
حدثني سليمان بن عبد الجبار ،  قال : ثنا محمد بن الصلت ،  قال : ثنا أبو كدينة ،  عن قابوس ،  عن أبيه ، عن ابن عباس   ( إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا   ) قال : خرجت مكانا شرقيا  . 
حدثنا موسى ،  قال : ثنا عمرو ،  قال : ثنا أسباط ،  عن  السدي ،  قال :  [ ص: 162 ] خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها ، وهو قوله : فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا : في شرقي المحراب  . 
وقوله ( مكانا شرقيا   ) يقول : فتنحت واعتزلت من أهلها في موضع قبل مشرق الشمس دون مغربها . 
كما حدثنا الحسن ،  قال : أخبرنا عبد الرزاق ،  قال : أخبرنا معمر ،  عن قتادة ،  في قوله ( مكانا شرقيا   ) قال : من قبل المشرق  . 
حدثني إسحاق بن شاهين ،  قال : ثنا  خالد بن عبد الله ،  عن داود ،  عن عامر ،  عن ابن عباس ،  قال : إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله : فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا ، فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة  . 
حدثنا  ابن المثنى ،  قال : ثني عبد الأعلى ،  قال : ثنا داود ،  عن عامر ،  عن ابن عباس ،  مثله . 
حدثني سليمان بن عبد الجبار ،  قال : أخبرنا محمد بن الصلت ،  قال : ثنا أبو كدينة ،  عن قابوس ،  عن أبيه ، عن ابن عباس ،  قال : إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت ، والحج لله ، وما صرفهم عنهما إلا تأويل ربك ( إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا   ) فصلوا قبل مطلع الشمس  . 
حدثنا بشر ،  قال : ثنا يزيد ،  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا   ) قال : شاسعا متنحيا  . 
وقيل : إنها إنما صارت بمكان يلي مشرق الشمس ، لأن ما يلي المشرق عندهم كان خيرا مما يلي المغرب ، وكذلك ذلك فيما ذكر عند العرب . 
وقوله : ( فاتخذت من دونهم حجابا   ) يقول : فاتخذت من دون أهلها سترا يسترها عنهم وعن الناس ، وذكر عن ابن عباس ،  أنها صارت بمكان يلي المشرق ، لأن الله أظلها بالشمس ، وجعل لها منها حجابا . 
حدثني محمد بن سعد ،  قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ،  قوله ( انتبذت من أهلها مكانا شرقيا   ) قال : مكانا  [ ص: 163 ] أظلتها الشمس أن يراها أحد منهم  . 
وقال غيره في ذلك ما حدثنا موسى ،  قال : ثنا عمرو ،  قال : ثنا أسباط ،  عن  السدي   ( فاتخذت من دونهم حجابا   ) من الجدران  . 
وقوله ( فأرسلنا إليها روحنا   ) يقول تعالى ذكره : فأرسلنا إليها حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ، واتخذت من دونهم حجابا : جبريل   . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا بشر ،  قال : ثنا يزيد ،  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة ،  قوله ( فأرسلنا إليها روحنا   ) قال : أرسل إليها فيما ذكر لنا جبريل  . 
حدثنا ابن حميد ،  قال : ثنا سلمة ،  عن ابن إسحاق ،  عمن لا يتهم ، عن  وهب بن منبه ،  قال : وجدت عندها جبريل  قد مثله الله بشرا سويا . 
حدثنا القاسم ،  قال : ثنا الحسين ،  قال : ثني حجاج ،  عن  ابن جريج ،  قوله ( فأرسلنا إليها روحنا   ) قال : جبريل  . 
حدثني محمد بن سهل ،  قال : ثنا إسماعيل بن عبد الكريم ،  قال : ثني عبد الصمد بن معقل  بن أخي وهب ،  قال : سمعت  وهب بن منبه  ، قال : أرسل الله جبريل إلى مريم ، فمثل لها بشرا سويا  . 
حدثني موسى ،  قال : ثنا عمرو ،  قال : ثنا أسباط ،  عن  السدي ،  قال : فلما طهرت ، يعني مريم من حيضها ، إذا هي برجل معها ، وهو قوله ( فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا   ) يقول تعالى ذكره : فتشبه لها في صورة آدمي سوي الخلق منهم ، يعني في صورة رجل من بني آدم معتدل الخلق  . 
				
						
						
