القول في تأويل قوله تعالى : ( قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا    ( 30 ) وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا   ( 31 ) ) 
يقول تعالى ذكره : فلما قال قوم مريم  لها ( كيف نكلم من كان في المهد صبيا   ) وظنوا أن ذلك منها استهزاء بهم ، قال عيسى  لها متكلما عن أمه : ( إني عبد الله آتاني الكتاب   ) . وكانوا حين أشارت لهم إلى عيسى  فيما ذكر عنهم غضبوا . 
كما حدثني موسى ،  قال : ثنا عمرو ،  قال : ثنا أسباط ،  عن  السدي ،  قال : لما أشارت لهم إلى عيسى غضبوا ، وقالوا : لسخريتها بنا حين تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها ( قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا   )  . 
حدثنا ابن حميد ،  قال : ثنا سلمة ،  عن ابن إسحاق ،  عمن لا يتهم ، عن  وهب بن منبه   ( قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا   ) فأجابهم عيسى  [ ص: 190 ] عنها فقال لهم ( إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا   ) . . . الآية  . 
حدثني يونس ،  قال : أخبرنا ابن وهب ،  قال : قال ابن زيد  ، في قوله ( قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا   ) قال لهم ( إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا   ) فقرأ حتى بلغ ( ولم يجعلني جبارا شقيا   ) فقالوا : إن هذا لأمر عظيم  . 
حدثت عن الحسين ،  قال : سمعت أبا معاذ  يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ،  قال : سمعت الضحاك  يقول ( كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله   ) لم يتكلم عيسى إلا عند ذلك حين ( قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا   ) 
وقوله ( آتاني الكتاب   ) يقول القائل : أوآتاه الكتاب والوحي قبل أن يخلق في بطن أمه؟ فإن معنى ذلك بخلاف ما يظن ، وإنما معناه : وقضى يوم قضى أمور خلقه إلي أن يؤتيني الكتاب . 
كما حدثني بشر بن آدم ،  قال : ثنا الضحاك ،  يعني ابن مخلد ،  عن سفيان ،  عن سماك ،  عن عكرمة   ( آتاني الكتاب   ) قال : قضى أن يؤتيني الكتاب فيما مضى  . 
حدثنا  محمد بن بشار ،  قال : ثنا أبو عاصم ،  قال : أخبرنا سفيان ،  عن سماك ،  عن عكرمة ،  في قوله ( إني عبد الله آتاني الكتاب   ) قال : القضاء  . 
حدثنا الحسن ،  قال : أخبرنا عبد الرزاق ،  عن إسرائيل ،  عن سماك ،  عن عكرمة ،  في قوله ( إني عبد الله آتاني الكتاب   ) قال : قضى أن يؤتيني الكتاب  . 
وقوله ( وجعلني نبيا   ) وقد بينت معنى النبي واختلاف المختلفين فيه ، والصحيح من القول فيه عندنا بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته . 
وكان مجاهد  يقول في معنى النبي وحده ما حدثنا به محمد بن عمرو ،  قال : ثنا أبو عاصم ،  قال : ثنا عيسى;  وحدثني الحارث ،  قال : ثنا الحسن ،  قال : ثنا ورقاء ،  جميعا عن ابن أبي نجيح ،  عن مجاهد ،  قال : النبي وحده الذي يكلم وينزل عليه الوحي ولا يرسل  . 
وقوله ( وجعلني مباركا   ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وجعلني نفاعا .  [ ص: 191 ] 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني سليمان بن عبد الرحمن بن حماد الطلحي ،  قال : ثنا العلاء ،  عن عائشة امرأة ليث ،  عن ليث ،  عن مجاهد   ( وجعلني مباركا   ) قال : نفاعا  . 
وقال آخرون : كانت بركته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني سليمان بن عبد الجبار ،  قال : ثنا محمد بن يزيد بن خنيس المخزومي ،  قال : سمعت وهيب بن ابن الورد مولى بني مخزوم ،  قال : لقي عالم عالما لما هو فوقه في العلم ، قال له : يرحمك الله ، ما الذي أعلن من علمي ، قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده ، وقد اجتمع الفقهاء على قول الله : ( وجعلني مباركا أينما كنت   ) وقيل : ما بركته؟ قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان  . 
وقال آخرون معنى ذلك : جعلني معلم الخير . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني  يونس بن عبد الأعلى ،  قال : ثنا سفيان  في قوله ( وجعلني مباركا أين ما كنت   ) قال : معلما للخير  . 
حدثنا ابن حميد ،  قال : ثنا جرير ،  عن ليث ،  عن مجاهد  ، قوله ( وجعلني مباركا أين ما كنت   ) قال : معلما للخير حيثما كنت  . 
وقوله ( وأوصاني بالصلاة والزكاة   ) يقول : وقضى أن يوصيني بالصلاة والزكاة ، يعنى المحافظة على حدود الصلاة وإقامتها على ما فرضها علي . وفي الزكاة معنيان : أحدهما : زكاة الأموال أن يؤديها . والآخر : تطهير الجسد من دنس الذنوب; فيكون معناه : وأوصاني بترك الذنوب واجتناب المعاصي . 
وقوله ( ما دمت حيا   ) يقول : ما كنت حيا في الدنيا موجودا ، وهذا يبين عن أن معنى الزكاة في هذا الموضع : تطهير البدن من الذنوب ، لأن الذي يوصف به عيسى  صلوات الله وسلامه عليه أنه كان لا يدخر شيئا لغد ، فتجب عليه زكاة المال ، إلا أن تكون الزكاة التي كانت فرضت عليه الصدقة بكل ما فضل عن قوته ، فيكون ذلك وجها صحيحا .  [ ص: 192 ] 
				
						
						
