القول في تأويل قوله تعالى : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر )
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وما هذا الكلام ، من قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، ولا خبر معنا قبل عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان ، بل إنما ذكر اتباع من اتبع من اليهود ما تلته الشياطين؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان ، بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل بالسحر وروايته من اليهود؟
قيل : وجه ذلك ، أن الذين أضاف الله - جل ثناؤه - إليهم اتباع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود ، نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلى [ ص: 413 ] الشياطين من ذلك ، إلى سليمان بن داود . وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته ، وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجن والشياطين وسائر خلق الله بالسحر؛ فحسنوا بذلك - من ركوبهم ما حرم الله عليهم من السحر - أنفسهم ، عند من كان جاهلا بأمر الله ونهيه ، وعند من كان لا علم له بما أنزل الله في ذلك من التوراة ، وتبرأ بإضافة ذلك إلىسليمان - من سليمان ، وهو نبي الله صلى الله عليه وسلم - منهم بشر ، وأنكروا أن يكون كان لله رسولا وقالوا : بل كان ساحرا ، سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السحر والكفر لأسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها ، وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها ، وأكذب الآخرين الذين كانوا يعملون بالسحر متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك ، بأن فبرأ الله سليمان كان يعمله ، فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحرا أو كافرا ، وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا - في عملهم بالسحر - ما تلته الشياطين في عهد سليمان ، دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة الله ، واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه .
ذكر الدلائل على صحة ما قلنا من الأخبار والآثار :
1659 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر ، فيأخذه فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته ، فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه ، فدنت إلى الإنس فقالوا لهم : أتريدون العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا : نعم . قالوا : فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه ، فاستثارته الإنس فاستخرجوه فعملوا به . فقال أهل الحجاز : كان سليمان [ ص: 414 ] يعمل بهذا ، وهذا سحر! فأنزل الله - جل ثناؤه - على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان . فقال : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) الآية ، فأنزل الله براءة سليمان على لسان نبيه عليهما السلام .
1660 - حدثني أبو السائب السوائي قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الذي أصاب سليمان بن داود ، في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة ، وكانت من أكرم نسائه عليه ، قال : فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم ، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدا . قال : وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء ، أو يأتي شيئا من نسائه ، أعطى الجرادة خاتمه ، فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به ، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه ، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي! فأخذه فلبسه . فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس ، قال : فجاءها سليمان فقال : هاتي خاتمي! فقالت : كذبت ، لست بسليمان ! قال : فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به . قال : فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر ، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس وقالوا : إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب! قال : فبرئ الناس من سليمان وأكفروه ، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فأنزل جل ثناؤه : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) - يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر - ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ، فأنزل الله جل وعز عذره .
1661 - حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، سمعت عمران بن حدير ، عن أبي مجلز قال : أخذ سليمان من كل [ ص: 415 ] دابة عهدا ، فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد ، خلي عنه ، فرأى الناس السجع والسحر ، وقالوا : هذا كان يعمل به سليمان! فقال الله جل ثناؤه : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) .
1662 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عمران بن الحارث قال : بينا نحن عند ابن عباس إذ جاءه رجل فقال له ابن عباس : من أين جئت؟ قال : من العراق . قال : من أيه؟ قال : من الكوفة . قال : فما الخبر؟ قال : تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم! ففزع فقال : ما تقول؟ لا أبا لك! لو شعرنا ما نكحنا نساءه ، ولا قسمنا ميراثه! أما إني أحدثكم من ذلك : إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء ، فيأتي أحدهم بكلمة حق قد سمعها ، فإذا حدث منه صدق ، كذب معها سبعين كذبة ، قال : فتشربها قلوب الناس . فأطلع الله عليها سليمان ، فدفنها تحت كرسيه ، فلما توفي سليمان بن داود قام شيطان بالطريق فقال : ألا أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز مثله؟ تحت الكرسي! فأخرجوه ، فقالوا : هذا سحر! فتناسخها الأمم - حتى بقاياهم ما يتحدث به أهل العراق - فأنزل الله عذر سليمان : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) . .
1663 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا ، والله أعلم ، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم ، ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه ، فلما سمع بذلك سليمان نبي الله صلى [ ص: 416 ] الله عليه وسلم تتبع تلك الكتب ، فأتى بها فدفنها تحت كرسيه ، كراهية أن يتعلمها الناس ، فلما قبض الله نبيه سليمان ، عمدت الشياطين فاستخرجوها من مكانها الذي كانت فيه فعلموها الناس ، فأخبروهم أن هذا علم كان يكتمه سليمان ويستأثر به ، فعذر الله نبيه سليمان وبرأه من ذلك ، فقال جل ثناؤه : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) .
1664 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كتبت الشياطين كتبا فيها سحر وشرك ، ثم دفنت تلك الكتب تحت كرسي سليمان . فلما مات سليمان استخرج الناس تلك الكتب ، فقالوا : هذا علم كتمناه سليمان ! فقال الله جل وعز : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) .
1665 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ، عن ابن جريج مجاهد قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، قال : كانت الشياطين تستمع الوحي من السماء ، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مثلها ، وإن سليمان أخذ ما كتبوا من ذلك فدفنه تحت كرسيه ، فلما توفي وجدته الشياطين فعلمته الناس .
1666 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن قال : لما سلب شهر بن حوشب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان . فكتبت : "من أراد أن يأتي كذا وكذا ، فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا ، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا ، فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا" ، فكتبته وجعلت عنوانه : "هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان [ ص: 417 ] بن داود من ذخائر كنوز العلم" ، ثم دفنته تحت كرسيه ، فلما مات سليمان ، قام إبليس خطيبا فقال : يا أيها الناس ، إن سليمان لم يكن نبيا ، وإنما كان ساحرا ، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته ، ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه؛ فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحرا! هذا سحره! بهذا تعبدنا ، وبهذا قهرنا! فقال المؤمنون : بل كان نبيا مؤمنا! فلما بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم ، جعل يذكر الأنبياء ، حتى ذكر داود وسليمان ، فقالت اليهود : انظروا إلى محمد ! يخلط الحق بالباطل! يذكر سليمان مع الأنبياء ، وإنما كان ساحرا يركب الريح! فأنزل الله عذر سليمان : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) الآية .
1667 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - لما ذكر سليمان بن داود في المرسلين ، قال بعض أحبار اليهود : ألا تعجبون من محمد ! يزعم أن ابن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنزل الله في ذلك من قولهم : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ، - أي باتباعهم السحر وعملهم به - ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) .
قال أبو جعفر : فإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا ، وتأويل قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ما ذكرنا فبين أن في الكلام متروكا ، ترك ذكره اكتفاء بما ذكر منه ، وأن معنى الكلام : واتبعوا ما تتلو الشياطين من السحر على ملك سليمان فتضيفه إلى سليمان ، وما كفر سليمان ، فيعمل بالسحر ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس [ ص: 418 ] السحر . وقد كان قتادة يتأول قوله : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) على ما قلنا .
1668 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ، يقول : ما كان عن مشورته ولا عن رضا منه ، ولكنه شيء افتعلته الشياطين دونه .
وقد دللنا فيما مضى على اختلاف المختلفين في معنى "تتلو" ، وتوجيه من وجه ذلك إلى أن "تتلو" بمعنى "تلت"؛ إذ كان الذي قبله خبرا ماضيا وهو قوله : ( واتبعوا ) ، وتوجيه الذين وجهوا ذلك إلى خلاف ذلك . وبينا فيه وفي نظيره الصواب من القول ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
وأما معنى قوله : ( ما تتلو ) ، فإنه بمعنى : الذي تتلو ، وهو السحر .
1669 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، أي السحر .
قال أبو جعفر : ولعل قائلا أن يقول : سليمان؟ أوما كان السحر إلا أيام
قيل له : بلى ، قد كان ذلك قبل ذلك ، وقد أخبر الله عن سحرة فرعون ما أخبر عنهم ، وقد كانوا قبل سليمان ، وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح : إنه ساحر .
[ فإن ] قال : فكيف أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان؟ [ ص: 419 ] قيل : لأنهم أضافوا ذلك إلى سليمان ، على ما قد قدمنا البيان عنه ، فأراد الله تعالى ذكره تبرئة سليمان مما نحلوه وأضافوا إليه ، مما كانوا وجدوه ، إما في خزائنه ، وإما تحت كرسيه ، على ما جاءت به الآثار التي قد ذكرناها من ذلك ، فحصر الخبر عما كانت اليهود اتبعته ، فيما تلته الشياطين أيام سليمان دون غيره لذلك السبب ، وإن كانت الشياطين قد كانت تالية للسحر والكفر قبل ذلك .