القول في وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ( 78 ) تأويل قوله تعالى : ( ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ( 79 ) )
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر داود وسليمان يا محمد إذ يحكمان في الحرث .
واختلف أهل التأويل في ذلك الحرث ما كان ؟ فقال بعضهم : كان نبتا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن ابن إسحاق عن مرة في قوله ( إذ يحكمان في الحرث ) قال : كان الحرث نبتا .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلا .
وقال آخرون : بل كان ذلك الحرث كرما .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب قال : ثنا المحاربي عن أشعث عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود في قوله ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ) قال : كرم قد أنبت عناقيده .
[ ص: 475 ] حدثنا تميم بن المنتصر قال : أخبرنا إسحاق عن شريك عن أبي إسحاق عن مسروق عن شريح قال : كان الحرث كرما .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قال الله تبارك وتعالى ( إذ يحكمان في الحرث ) والحرث : إنما هو حرث الأرض ، وجائز أن يكون ذلك كان زرعا ، وجائز أن يكون غرسا ، وغير ضائر الجهل بأي ذلك كان .
وقوله ( إذ نفشت فيه غنم القوم ) يقول : حين دخلت في هذا الحرث غنم القوم الآخرين من غير أهل الحرث ليلا فرعته أو أفسدته ( وكنا لحكمهم شاهدين ) يقول : وكنا لحكم داود وسليمان والقوم الذين حكما بينهم فيما أفسدت غنم أهل الغنم من حرث أهل الحرث شاهدين لا يخفى علينا منه شيء ، ولا يغيب عنا علمه . وقوله ( ففهمناها ) يقول : ففهمنا القضية في ذلك ( سليمان ) دون داود ، ( وكلا آتينا حكما وعلما ) يقول : وكلهم من داود وسليمان والرسل الذين ذكرهم في أول هذه السورة آتينا حكما وهو النبوة ، وعلما : يعني وعلما بأحكام الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم قالا : ثنا المحاربي عن أشعث عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود في قوله ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم ) قال : كرم قد أنبت عناقيده فأفسدته ، قال : فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم ، فقال سليمان غير هذا يا نبي الله ، قال : وما ذاك ؟ قال : يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها ، حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ، ودفعت الغنم إلى صاحبها ، فذلك قوله ( ففهمناها سليمان ) .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت ) . . . إلى قوله ( وكنا لحكمهم شاهدين ) يقول : كنا لما حكما شاهدين ، وذلك أن رجلين دخلا على داود ، أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الحرث : إن هذا أرسل غنمه في حرثي ، فلم يبق من حرثي شيئا ، فقال له داود : اذهب فإن الغنم كلها لك ، فقضى بذلك داود ، ومر صاحب الغنم بسليمان ، فأخبره بالذي قضى به داود ، فدخل سليمان على داود فقالا يا نبي الله إن القضاء سوى الذي قضيت ، فقال : كيف ؟ قال سليمان : إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه في كل عام ، فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث ، فإن الغنم لها نسل في كل عام ، فقال داود : قد أصبت ، القضاء كما قضيت ، ففهمها الله سليمان .
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن عن ابن جريج علي بن زيد قال : ثني خليفة عن ابن عباس قال : قضى داود بالغنم لأصحاب الحرث ، فخرج الرعاة معهم الكلاب ، فقال سليمان : كيف قضى بينكم ؟ فأخبروه ، فقال : لو وافيت أمركم لقضيت بغير هذا ، فأخبر بذلك داود ، فدعاه فقال : كيف تقضي بينهم ؟ قال : أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث ، فيكون لهم أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها ، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم ، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه ، أخذ أصحاب الحرث الحرث ، وردوا الغنم إلى أصحابها .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى قال : ثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله ( إذ نفشت فيه غنم القوم ) قال : أعطاهم داود رقاب الغنم بالحرث ، وحكم سليمان بجزة الغنم وألبانها لأهل الحرث ، وعليهم رعايتها على أهل الحرث ، ويحرث لهم أهل الغنم حتى يكون الحرث كهيئته يوم أكل ، ثم يدفعونه إلى أهله ويأخذون غنمهم .
حدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثني ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثنى حجاج بنحوه ، إلا أنه قال : وعليهم رعيها . [ ص: 477 ] حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن ابن إسحاق عن مرة في قوله ( إذ نفشت فيه غنم القوم ) قال : كان الحرث نبتا ، فنفشت فيه ليلا فاختصموا فيه إلى داود ، فقضى بالغنم لأصحاب الحرث . فمروا على سليمان ، فذكروا ذلك له ، فقال : لا تدفع الغنم فيصيبون منها ، يعني أصحاب الحرث ويقوم هؤلاء على حرثهم ، فإذا كان كما كان ردوا عليهم . فنزلت ( ففهمناها سليمان ) .
حدثنا تميم بن المنتصر قال : أخبرنا إسحاق عن شريك عن أبي إسحاق عن مسروق عن شريح في قوله ( إذ نفشت فيه غنم القوم ) قال : كان النفش ليلا وكان الحرث كرما ، قال : فجعل داود الغنم لصاحب الكرم ، قال : فقال سليمان : إن صاحب الكرم قد بقي له أصل أرضه وأصل كرمه ، فاجعل له أصوافها وألبانها ! قال : فهو قول الله ( ففهمناها سليمان ) .
حدثنا ابن أبي زياد قال : ثنا قال : أخبرنا يزيد بن هارون إسماعيل عن عامر قال : جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما : إن شياه هذا قطعت غزلا لي ، فقال شريح : نهارا أم ليلا ؟ قال : إن كان نهارا فقد برئ صاحب الشياه ، وإن كان ليلا فقد ضمن ، ثم قرأ ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم ) قال : كان النفش ليلا .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام قال : ثنا إسماعيل بن أبي خالد عن عامر عن شريح بنحوه .
حدثني يعقوب قال : ثنا هشيم قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن شريح مثله .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ) . . . الآية ، النفش بالليل ، والهمل بالنهار .
وذكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلا فرفع ذلك إلى داود ، فقضى بالغنم لأصحاب الزرع ، فقال سليمان : ليس كذلك ، ولكن له نسلها ورسلها وعوارضها وجزازها ، حتى إذا كان من العام المقبل كهيئه يوم أكل ، دفعت الغنم إلى ربها وقبض صاحب الزرع زرعه ، فقال الله ( ففهمناها سليمان ) . [ ص: 478 ] حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة ( والزهري إذ نفشت فيه غنم القوم ) قال : نفشت غنم في حرث قوم ، قال الزهري : والنفش لا يكون إلا ليلا فقضى داود أن يأخذ الغنم ، ففهمها الله سليمان ، قال : فلما أخبر بقضاء داود ، قال : لا ولكن خذوا الغنم ، ولكم ما خرج من رسلها وأولادها وأصوافها إلى الحول .
حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله ( إذ نفشت فيه غنم القوم ) قال : في حرث قوم ، قال معمر : قال الزهري : النفش لا يكون إلا بالليل ، والهمل بالنهار ، قال قتادة : فقضى أن يأخذوا الغنم ، ففهمها الله سليمان ، ثم ذكر باقي الحديث نحو حديث عبد الأعلى .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم ) . . . الآيتين ، قال : انفلت غنم رجل على حرث رجل فأكلته ، فجاء إلى داود ، فقضى فيها بالغنم لصاحب الحرث بما أكلت ، وكأنه رأى أنه وجه ذلك ، فمروا بسليمان ، فقال : ما قضى بينكم نبي الله ؟ فأخبروه ، فقال : ألا أقضي بينكما عسى أن ترضيا به ؟ فقالا نعم . فقال : أما أنت يا صاحب الحرث ، فخذ غنم هذا الرجل فكن فيها كما كان صاحبها ، أصب من لبنها وعارضتها وكذا وكذا ما كان يصيب ، واحرث أنت يا صاحب الغنم حرث هذا الرجل ، حتى إذا كان حرثه مثله ليلة نفشت فيه غنمك ، فأعطه حرثه ، وخذ غنمك ، فذلك قول الله تبارك وتعالى ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم ) وقرأ حتى بلغ قوله ( وكلا آتينا حكما وعلما ) .
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن عن ابن جريج عن عطاء الخراساني ابن عباس في قوله ( إذ نفشت فيه غنم القوم ) قال : رعت .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة عن ابن إسحاق قال : النفش : الرعية تحت الليل .
قال : ثنا سلمة عن ابن إسحاق عن الزهري عن حرام بن محيصة [ ص: 479 ] بن مسعود قال : " حائطا لبعض للبراء بن عازب الأنصار فأفسدته ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ( إذ نفشت فيه غنم القوم ) فقضى على البراء بما أفسدته الناقة ، وقال على أصحاب الماشية حفظ الماشية بالليل ، وعلى أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم بالنهار " . دخلت ناقة
قال الزهري : وكان قضاء داود وسليمان في ذلك أن رجلا دخلت ماشيته زرعا لرجل فأفسدته ، ولا يكون النفوش إلا بالليل ، فارتفعا إلى داود ، فقضى بغنم صاحب الغنم لصاحب الزرع ، فانصرفا فمرا بسليمان ، فقال : بماذا قضى بينكما نبي الله ؟ فقالا قضى بالغنم لصاحب الزرع ، فقال : إن الحكم لعلى غير هذا ، انصرفا معي ! فأتى أباه داود ، فقال : يا نبي الله ، قضيت على هذا بغنمه لصاحب الزرع ؟ قال نعم . قال : يا نبي الله ، إن الحكم لعلى غير هذا ، قال : وكيف يا بني ؟ قال : تدفع الغنم إلى صاحب الزرع ، فيصيب من ألبانها وسمونها وأصوافها ، وتدفع الزرع إلى صاحب الغنم يقوم عليه ، فإذا عاد الزرع إلى حاله التي أصابته الغنم عليها ، ردت الغنم على صاحب الغنم ، ورد الزرع إلى صاحب الزرع ، فقال داود : لا يقطع الله فمك ، فقضى بما قضى سليمان ، قال الزهري : فذلك قوله ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ) . . . إلى قوله ( حكما وعلما ) .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة وعلي بن مجاهد عن محمد بن إسحاق قال : فحدثني من سمع الحسن يقول : كان الحكم بما قضى به سليمان ، ولم يعنف الله داود في حكمه .
وقوله ( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ) يقول تعالى ذكره : وسخرنا مع داود الجبال والطير يسبحن معه إذا سبح .
وكان قتادة يقول في معنى قوله ( يسبحن ) في هذا الموضع ما حدثنا به بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله ( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ) : أي يصلين مع داود إذا صلى .
وقوله ( وكنا فاعلين ) يقول : وكنا قد قضينا أنا فاعلو ذلك ، ومسخرو الجبال والطير في أم الكتاب مع داود عليه الصلاة والسلام .