القول في وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين ( 85 ) تأويل قوله تعالى : ( وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين ( 86 ) )
يعني تعالى ذكره بإسماعيل إسماعيل بن إبراهيم صادق الوعد ، وبإدريس أخنوخ ، وبذي الكفل رجلا تكفل من بعض الناس ، إما من نبي وإما من ملك من صالحي الملوك بعمل من الأعمال ، فقام به من بعده ، فأثنى الله عليه حسن وفائه بما تكفل به ، وجعله من المعدودين في عباده ، مع من حمد صبره على طاعة الله ، وبالذي قلنا في أمره جاءت الأخبار عن سلف العلماء .
[ ص: 508 ] ذكر الرواية بذلك عنهم : حدثنا ، قال : ثنا محمد بن بشار مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن ، عن المنهال بن عمرو عبد الله بن الحارث : أن نبيا من الأنبياء ، قال : من تكفل لي أن يصوم النهار ويقوم الليل ، ولا يغضب ؟ فقام شاب فقال : أنا ، فقال : اجلس : ثم عاد فقال : من تكفل لي أن يقوم الليل ويصوم النهار ، ولا يغضب ؟ فقام ذلك الشاب فقال : أنا ، فقال : اجلس ، ثم عاد فقال : من تكفل لي أن يقوم الليل ، ويصوم النهار ، ولا يغضب ؟ فقام ذلك الشاب فقال : أنا ، فقال : تقوم الليل ، وتصوم النهار ، ولا تغضب فمات ذلك النبي ، فجلس ذلك الشاب مكانه يقضي بين الناس ، فكان لا يغضب ، فجاءه الشيطان في صورة إنسان ليغضبه وهو صائم يريد أن يقيل ، فضرب الباب ضربا شديدا ، فقال : من هذا ؟ فقال : رجل له حاجة ، فأرسل معه رجلا فقال : لا أرضى بهذا الرجل ، فأرسل معه آخر ، فقال : لا أرضى بهذا ، فخرج إليه فأخذ بيده ، فانطلق معه ، حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب ، فسمي ذا الكفل .
حدثنا ، قال : ثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عفان بن مسلم وهيب ، قال : ثنا داود ، عن مجاهد ، قال : لما كبر اليسع قال : لو أني استخلفت على الناس رجلا يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل ، قال : فجمع الناس ، فقال : من يتقبل لي بثلاث أستخلفه : يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب ، قال : فقام رجل تزدريه العين ، فقال : أنا ، فقال : أنت تصوم النهار ، وتقوم الليل ولا تغضب ؟ قال : نعم ، قال : فردهم ذلك اليوم ، وقال مثلها اليوم الآخر ، فسكت الناس وقام ذلك الرجل ، فقال : أنا ، فاستخلفه ، قال : فجعل إبليس يقول للشياطين : عليكم بفلان ، فأعياهم ، فقال : دعوني وإياه ، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير ، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة ، وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة ، فدق الباب ، فقال : من هذا ؟ قال : شيخ كبير مظلوم ، قال : فقام ففتح الباب ، فجعل يقص عليه ، فقال : إن بيني وبين قومي خصومة ، وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا ، فجعل يطول عليه ، حتى حضر الرواح ، وذهبت القائلة ، وقال : إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك ، فانطلق وراح ، فكان في مجلسه ، فجعل ينظر هل يرى الشيخ ، فلم يره ، فجعل يبتغيه فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس [ ص: 509 ] وينتظره فلا يراه ، فلما رجع إلى القائلة ، فأخذ مضجعه ، أتاه فدق الباب ، فقال : من هذا ؟ قال : الشيخ الكبير المظلوم ، ففتح له ، فقال : ألم أقل لك إذا قعدت فأتني ، فقال : إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد ، قالوا نحن نعطيك حقك ، وإذا قمت جحدوني ، قال : فانطلق فإذا رحت فأتني ، قال : ففاتته القائلة ، فراح فجعل ينظر فلا يراه ، فشق عليه النعاس ، فقال لبعض أهله : لا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام ، فإني قد شق علي النوم ، فلما كان تلك الساعة جاء ، فقال له الرجل وراءك ، فقال : إني قد أتيته أمس فذكرت له أمري ، قال : والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه ، فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت ، فتسور منها ، فإذا هو في البيت ، وإذا هو يدق الباب ، قال : واستيقظ الرجل فقال : يا فلان ، ألم آمرك ؟ قال : أما من قبلي والله فلم تؤت ، فانظر من أين أتيت ، قال : فقام إلى الباب ، فإذا هو مغلق كما أغلقه ، وإذا هو معه في البيت ، فعرفه فقال : أعدو الله ؟ قال : نعم أعييتني في كل شيء ، ففعلت ما ترى لأغضبك ، فسماه ذا الكفل ، لأنه تكفل بأمر فوفى به .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج مجاهد ، في قوله ( وذا الكفل ) قال رجل صالح غير نبي ، تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ، ويقيمه لهم ، ويقضي بينهم بالعدل ، ففعل ذلك ، فسمي ذا الكفل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه ، إلا أنه قال : ويقضي بينهم بالحق .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج أبي معشر ، عن محمد بن قيس قال : كان في بني إسرائيل ملك صالح ، فكبر ، فجمع قومه فقال : أيكم يكفل لي بملكي هذا على أن يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ويحكم بين بني إسرائيل بما أنزل الله ، ولا يغضب ؟ قال : فلم يقم أحد إلا فتى شاب ، فازدراه لحداثة سنه فقال : أيكم يكفل لي بملكي هذا على أن يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب ، ويحكم بين بني إسرائيل بما أنزل الله ؟ فلم يقم إلا ذلك الفتى ، قال : فازدراه ، فلما كانت الثالثة قال مثل [ ص: 510 ] ذلك ، فلم يقم إلا ذلك الفتى ، فقال : تعال ، فخلى بينه وبين ملكه ، فقام الفتى ليلة ، فلما أصبح جعل يحكم بين بني إسرائيل ، فلما انتصف النهار دخل ليقيل ، فأتاه الشيطان في صورة رجل من بني آدم ، فجذب ثوبه ، فقال : أتنام والخصوم ببابك ؟ قال : إذا كان العشية فأتني ، قال : فانتظره بالعشي فلم يأته ، فلما انتصف النهار دخل ليقيل ، جذب ثوبه ، وقال : أتنام والخصوم على بابك ؟ قال : قلت لك : ائتني العشي فلم تأتني ، ائتني بالعشي ، فلما كان بالعشي انتظره فلم يأت ، فلما دخل ليقيل جذب ثوبه ، فقال : أتنام والخصوم ببابك ؟ قال : أخبرني من أنت ، لو كنت من الإنس سمعت ما قلت ، قال : هو الشيطان ، جئت لأفتنك فعصمك الله مني ، فقضى بين بني إسرائيل بما أنزل الله زمانا طويلا وهو ذو الكفل ، سمي ذا الكفل لأنه تكفل بالملك .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن ، قال وهو يخطب الناس : إن أبي موسى الأشعري ذا الكفل لم يكن نبيا ولكن كان عبدا صالحا تكفل بعمل رجل صالح عند موته ، كان يصلي لله كل يوم مائة صلاة ، فأحسن الله عليه الثناء في كفالته إياه .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم ، قال : ثنا عمرو ، قال : أما ذو الكفل فإنه كان على بني إسرائيل ملك ، فلما حضره الموت ، قال : من يكفل لي أن يكفيني بني إسرائيل ، ولا يغضب ، ويصلي كل يوم مائة صلاة ، فقال ذو الكفل : أنا ، فجعل ذو الكفل يقضي بين الناس ، فإذا فرغ صلى مائة صلاة ، فكاده الشيطان ، فأمهله حتى إذا قضى بين الناس ، وفرغ من صلاته وأخذ مضجعه فنام ، أتى الشيطان بابه فجعل يدقه ، فخرج إليه ، فقال : ظلمت وصنع بي ، فأعطاه خاتمه وقال : اذهب فأتني بصاحبك ، وانتظره ، فأبطأ عليه الآخر ، حتى إذا عرف أنه قد نام وأخذ مضجعه ، أتى الباب أيضا كي يغضبه ، فجعل يدقه ، وخدش وجه نفسه فسالت الدماء ، فخرج إليه فقال : ما لك ؟ فقال : لم يتبعني ، وضربت وفعل ، فأخذه ذو الكفل ، وأنكر أمره ، فقال : أخبرني من أنت ؟ وأخذه أخذا شديدا ، قال : فأخبره من هو .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( وذا الكفل ) قال : قال : لم يكن أبو موسى الأشعري ذو الكفل [ ص: 511 ] نبيا ، ولكنه كفل بصلاة رجل كان يصلي كل يوم مائة صلاة ، فوفى ، فكفل بصلاته ، فلذلك سمي ذا الكفل ،ونصب إسماعيل وإدريس وذا الكفل ، عطفا على أيوب ، ثم استؤنف بقوله ( كل ) فقال ( كل من الصابرين ) ومعنى الكلام : كلهم من أهل الصبر فيما نابهم في الله .
وقوله ( وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين ) يقول تعالى ذكره : وأدخلنا إسماعيل وإدريس وذا الكفل ، والهاء والميم عائدتان عليهم ( في رحمتنا إنهم من الصالحين ) يقول : إنهم ممن صلح ، فأطاع الله ، وعمل بما أمره . . .