يعني تعالى ذكره مخبرا عن قيل الملأ الذين كفروا من قوم نوح : ( إن هو إلا رجل به جنة ) [ ص: 26 ] ما نوح إلا رجل به جنون . وقد يقال أيضا للجن : جنة ، فيتفق الاسم والمصدر ، وهو من قوله : ( إن هو ) كناية اسم نوح . وقوله : ( فتربصوا به حتى حين ) يقول : فتلبثوا به ، وتنظروا به حتى حين ، يقول : إلى وقت ما ، ولم يعنوا بذلك وقتا معلوما ، إنما هو كقول القائل : دعه إلى يوم ما ، أو إلى وقت ما ، وقوله : ( قال رب انصرني بما كذبون ) يقول : نوح داعيا ربه ، مستنصرا به على قومه ; لما طال أمره وأمرهم ، وتمادوا في غيهم : ( قال رب انصرني ) على قومي ( بما كذبون ) يعني بتكذيبهم إياي ، فيما بلغتهم من رسالتك ، ودعوتهم إليه من توحيدك . وقوله : ( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ) يقول : فقلنا له حين استنصرنا على كفرة قومه : اصنع الفلك ، وهي السفينة ; بأعيننا ، يقول : بمرأى منا ، ومنظر ، ووحينا ، يقول : وبتعليمنا إياك صنعتها ، ( فإذا جاء أمرنا ) يقول : فإذا جاء قضاؤنا في قومك ، بعذابهم وهلاكهم ( وفار التنور ) .
وقد ذكرنا فيما مضى اختلاف المختلفين في صفة فور التنور . والصواب عندنا من القول فيه بشواهده ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
( فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ) يقول : فادخل في الفلك واحمل . والهاء والألف في قوله : ( فيها ) من ذكر الفلك ( من كل زوجين اثنين ) يقال : سلكته في كذا ، وأسلكته فيه ، ومن سلكته قول الشاعر :
وكنت لزاز خصمك لم أعرد وقد سلكوك في يوم عصيب
وبعضهم يقول : أسلكت بالألف ، ومنه قول الهذلي .
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا
[ ص: 27 ] وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ) يقول لنوح : اجعل في السفينة من كل زوجين اثنين ( وأهلك ) وهم ولده ونساؤهم ( إلا من سبق عليه القول ) من الله بأنه هالك ، فيمن يهلك من قومك ، فلا تحمله معك ، وهو يام الذي غرق .
ويعني بقوله : ( منهم ) من أهلك ، والهاء والميم في قوله ( منهم ) من ذكر الأهل .
وقوله : ( ولا تخاطبني ) الآية ، يقول : ولا تسألني في الذين كفروا بالله أن أنجيهم .
( إنهم مغرقون ) يقول : فإني قد حتمت عليهم أن أغرق جميعهم .