القول في تأويل ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ( 29 ) ) قوله تعالى : (
[ ص: 151 ] يقول تعالى ذكره : ليس عليكم أيها الناس إثم وحرج أن تدخلوا بيوتا لا ساكن بها بغير استئذان .
ثم اختلفوا في ذلك أي البيوت عنى ، فقال بعضهم : عنى بها الخانات والبيوت المبنية بالطرق التي ليس بها سكان معروفون ، وإنما بنيت لمارة الطريق والسابلة ، ليأووا إليها ، ويؤووا إليها أمتعتهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن سالم المكي ، عن في قوله : ( محمد ابن الحنفية ، ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة ) قال : هي الخانات التي تكون في الطرق .
حدثني عباس بن محمد ، قال : ثنا مسلم ، قال : ثنا عمر بن فروخ ، قال : سمعت قتادة يقول : ( بيوتا غير مسكونة ) قال : هي الخانات تكون لأهل الأسفار .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) قال : كانوا يضعون في بيوت في طرق المدينة متاعا وأقتابا ، فرخص لهم أن يدخلوها .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( بيوتا غير مسكونة ) قال : هي البيوت التي ينزلها السفر ، لا يسكنها أحد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( بيوتا غير مسكونة ) قال : كانوا يصنعون ، أو يضعون بطريق المدينة أقتابا وأمتعة في بيوت ليس فيها أحد ، فأحل لهم أن يدخلوها بغير إذن .
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . إلا أنه قال : كانوا يضعون بطريق المدينة ، بغير شك .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد ، مثله ، غير أنه قال : كانوا يضعون بطريق المدينة أقتابا وأمتعة .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة ) هي البيوت التي ليس لها [ ص: 152 ] أهل ، وهي البيوت التي تكون بالطرق والخربة ( فيها متاع ) منفعة للمسافر في الشتاء والصيف ، يأوي إليها .
وقال آخرون : هي بيوت مكة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا عن حكام بن سلم ، سعيد بن سائق ، عن الحجاج بن أرطأة ، عن سالم بن محمد ابن الحنفية في : ( بيوتا غير مسكونة ) قال : هي بيوت مكة .
وقال آخرون : هي البيوت الخربة والمتاع الذي قال الله فيها لكم قضاء الحاجة ، من الخلاء والبول فيها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن قال : سمعت ابن جريج ، عطاء يقول ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) قال : الخلاء والبول .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عمرو بن حماد ، قال : ثنا حسن بن عيسى بن زيد ، عن أبيه ، في هذه الآية ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) قال : التخلي في الخراب .
وقال آخرون : بل عنى بذلك بيوت التجار التي فيها أمتعة الناس .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) قال : بيوت التجار ، ليس عليكم جناح أن تدخلوها بغير إذن ، الحوانيت التي بالقيساريات والأسواق ، وقرأ ( فيها متاع لكم ) متاع للناس ، ولبني آدم .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عم بقوله : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) كل بيت لا ساكن به لنا فيه متاع ندخله بغير إذن ; لأن الإذن إنما يكون ليؤنس المأذون عليه قبل الدخول ، أو ليأذن للداخل إن كان له مالكا ، أو كان فيه ساكنا . فأما إن كان لا مالك له فيحتاج إلى إذنه لدخوله [ ص: 153 ] ولا ساكن فيه فيحتاج الداخل إلى إيناسه والتسليم عليه ، لئلا يهجم على ما لا يحب رؤيته منه ، فلا معنى للاستئذان فيه . فإذا كان ذلك ، فلا وجه لتخصيص بعض ذلك دون بعض ، فكل بيت لا مالك له ، ولا ساكن ، من بيت مبني ببعض الطرق للمارة والسابلة ; ليأووا إليه ، أو بيت خراب ، قد باد أهله ولا ساكن فيه ، حيث كان ذلك ، فإن لمن أراد دخوله أن يدخل بغير استئذان ، لمتاع له يؤويه إليه ، أو للاستمتاع به لقضاء حقه من بول أو غائط أو غير ذلك وأما بيوت التجار ، فإنه ليس لأحد دخولها إلا بإذن أربابها وسكانها .
فإن ظن ظان أن التاجر إذا فتح دكانه وقعد للناس ، فقد أذن لمن أراد الدخول عليه في دخوله ، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن ، وذلك أنه ليس لأحد دخول ملك غيره بغير ضرورة ألجأته إليه ، أو بغير سبب أباح له دخوله إلا بإذن ربه ، لا سيما إذا كان فيه متاع ، فإن كان التاجر قد عرف منه أن فتحه حانوته إذن منه لمن أراد دخوله في الدخول ، فذلك بعد راجع إلى ما قلنا من أنه لم يدخله من دخله إلا بإذنه . وإذا كان ذلك كذلك ، لم يكن من معنى قوله : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) في شيء ، وذلك أن التي وضع الله عنا الجناح في دخولها بغير إذن من البيوت ، هي ما لم يكن مسكونا ، إذ حانوت التاجر لا سبيل إلى دخوله إلا بإذنه ، وهو مع ذلك مسكون ، فتبين أنه مما عنى الله من هذه الآية بمعزل .
وقال جماعة من أهل التأويل : هذه الآية مستثناة من قوله : ( لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن قال : قال ابن جريج ، ابن عباس : ( لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم ) ثم نسخ واستثنى فقال : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا عن يحيى بن واضح ، الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ( حتى تستأنسوا ) . . الآية ، فنسخ من ذلك ، واستثني فقال : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) .
وليس في قوله : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) دلالة على أنه استثناء من قوله : [ ص: 154 ] ( لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا ) ; لأن قوله : ( لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) حكم من الله في البيوت التي لها سكان وأرباب . وقوله : ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) حكم منه في البيوت التي لا سكان لها ، ولا أرباب معروفون ، فكل واحد من الحكمين حكم في معنى غير معنى الآخر ، وإنما يستثنى الشيء من الشيء إذا كان من جنسه أو نوعه في الفعل أو النفس ، فأما إذا لم يكن كذلك ، فلا معنى لاستثنائه منه . وقوله : ( والله يعلم ما تبدون ) يقول تعالى ذكره : والله يعلم ما تظهرون أيها الناس بألسنتكم من الاستئذان إذا استأذنتم على أهل البيوت المسكونة ( وما تكتمون ) يقول : وما تضمرونه في صدوركم عند فعلكم ذلك ما الذي تقصدون به إطاعة الله ، والانتهاء إلى أمره ، أم غير ذلك .