يعني تعالى ذكره بقوله : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) الله نور السماوات [ ص: 189 ] والأرض ، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ، في بيوت أذن الله أن ترفع .
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : المشكاة التي فيها الفتيلة التي فيها المصباح ، قال : المصابيح في بيوت أذن الله أن ترفع .
قال أبو جعفر : قد يحتمل أن تكون " من " في صلة " توقد " ، فيكون المعنى : توقد من شجرة مباركة ذلك المصباح في بيوت أذن الله أن ترفع ، وعنى بالبيوت المساجد .
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم بالذي قلنا في ذلك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، ونصر بن عبد الرحمن الأودي ، قالا ثنا حكام ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قول الله : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) قال : المساجد .
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) وهي المساجد تكرم ، ونهى عن اللغو فيها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) يعني كل مسجد يصلى فيه ، جامع أو غيره .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) قال : مساجد تبنى .
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) قال : في المساجد .
قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، قال : أدركت أصحاب رسول الله وهم يقولون : المساجد بيوت الله ، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن سالم بن عمر في قوله : [ ص: 190 ] ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) قال : هي المساجد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) قال : المساجد .
وقال آخرون : عنى بذلك البيوت كلها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، ونصر بن عبد الرحمن الأودي ، قالا حدثنا عن حكام بن سلم ، إسماعيل بن أبي خالد ، عن عكرمة ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) قال : هي البيوت كلها .
إنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك ; لدلالة قوله : ( يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) على أنها بيوت بنيت للصلاة ، فلذلك قلنا هي المساجد .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( أذن الله أن ترفع ) فقال : بعضهم معناه : أذن الله أن تبنى .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عصام ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( أذن الله أن ترفع ) قال : تبنى .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد مثله .
وقال آخرون : معناه : أذن الله أن تعظم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : ( أذن الله أن ترفع ) يقول : أن تعظم لذكره .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، القول الذي قاله مجاهد ، وهو أن معناه : أذن الله أن ترفع بناء ، كما قال جل ثناؤه : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ) وذلك أن ذلك هو الأغلب من معنى الرفع في البيوت والأبنية .
وقوله : ( ويذكر فيها اسمه ) يقول : وأذن لعباده أن يذكروا اسمه فيها . وقد قيل : [ ص: 191 ] عني به أنه أذن لهم بتلاوة القرآن فيها .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قال : ثم قال : ( ويذكر فيها اسمه ) يقول : يتلى فيها كتابه . وهذا القول قريب المعنى مما قلناه في ذلك ; لأن ، غير أن الذي قلنا به أظهر معنييه ، فلذلك اخترنا القول به . تلاوة كتاب الله من معاني ذكر الله
وقوله : ( يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) .
اختلفت القراء في قراءة قوله : ( يسبح له ) فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار ( يسبح له ) بضم الياء وكسر الباء ، بمعنى يصلي له فيها رجال ، ويجعل يسبح فعلا للرجال ، وخبرا عنهم ، وترفع به الرجال ، سوى عاصم وابن عامر ، فإنهما قرءا ذلك : " يسبح له " بضم الياء وفتح الباء ، على ما لم يسم فاعله ، ثم يرفعان الرجال بخبر ثان مضمر ، كأنهما أرادا : يسبح الله في البيوت التي أذن الله أن ترفع ، فسبح له رجال ، فرفعا الرجال بفعل مضمر ، والقراءة التي هي أولاهما بالصواب ، قراءة من كسر الباء ، وجعله خبرا للرجال وفعلا لهم . وإنما كان الاختيار رفع الرجال بمضمر من الفعل لو كان الخبر عن البيوت ، لا يتم إلا بقوله : ( يسبح له فيها ) ، فأما والخبر عنها دون ذلك تام ، فلا وجه لتوجيه قوله : ( يسبح له ) إلى غيره أي غير الخبر عن الرجال . وعني بقوله : ( يسبح له فيها بالغدو والآصال ) يصلي له في هذه البيوت بالغدوات والعشيات رجال .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن الحسن الأزدي ، قال : ثنا المعافى بن عمران ، عن سفيان ، عن عن عمار الدهني سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة .
حدثني علي ، قال ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قال : ثم قال : ( يسبح له فيها بالغدو والآصال ) يقول : يصلي له فيها بالغداة والعشي ، [ ص: 192 ] يعني بالغدو : صلاة الغداة ، ويعني بالآصال : صلاة العصر وهما أول ما افترض الله من الصلاة ، فأحب أن يذكرهما ، ويذكر بهما عباده .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ( يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال ) أذن الله أن تبنى ، فيصلى فيها بالغدو والآصال .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول في قوله : ( يسبح له فيها بالغدو والآصال ) يعني الصلاة المفروضة .
وقوله : ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) يقول تعالى ذكره : لا يشغل هؤلاء الرجال الذين يصلون في هذه المساجد ، التي أذن الله أن ترفع ، عن ذكر الله فيها وإقام الصلاة - تجارة ولا بيع .
كما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سعيد بن أبي الحسن ، عن رجل نسي اسمه في هذه الآية : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) . . إلى قوله : ( والأبصار ) قال : هم قوم في تجاراتهم وبيوعهم ; لا تلهيهم تجاراتهم ، ولا بيوعهم عن ذكر الله .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا جعفر بن سليمان ، عن عن عمرو بن دينار ، أنه نظر إلى قوم من السوق ، قاموا وتركوا بياعاتهم إلى الصلاة ، فقال : هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه ( سالم بن عبد الله لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) . . الآية .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، عن سيار ، عمن حدثه ، عن ابن مسعود ، نحو ذلك .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، عن سيار ، قال : حدثت عن ابن مسعود أنه رأى قوما من أهل السوق حيث نودي بالصلاة ، تركوا بياعاتهم ، ونهضوا إلى الصلاة ، فقال عبد الله : هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه ( لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) .
وقال بعضهم : معنى ذلك : ( لا تلهيهم تجارة ولا بيع ) عن صلاتهم المفروضة عليهم .
[ ص: 193 ] ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قال : ثم قال : ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) يقول : عن الصلاة المكتوبة .
قوله : ( وإقام الصلاة ) يقول : ولا يشغلهم ذلك أيضا عن إقام الصلاة بحدودها في أوقاتها .
وبنحو قولنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا قال : ثنا محمد بن بشار ، محمد ، قال : ثنا عوف ، عن سعيد بن أبي الحسن ، عن رجل نسي عوف اسمه في ( وإقام الصلاة ) قال : يقومون للصلاة عند مواقيت الصلاة .
فإن قال قائل : أوليس قوله : ( وإقام الصلاة ) مصدرا من قوله : أقمت؟ قيل : بلى . فإن قال : أوليس المصدر منه إقامة ، كالمصدر من آجرت إجارة؟ قيل : بلى . فإن قال : وكيف قال : ( وإقام الصلاة ) أوتجيز أن نقول : أقمت إقاما؟ قيل : ولكني أجيز أعجبني إقام الصلاة . فإن قيل : وما وجه جواز ذلك؟ قيل : إن الحكم في أقمت إذا جعل منه مصدر أن يقال : إقواما ، كما يقال : أقعدت فلانا إقعادا ، وأعطيته إعطاء . ولكن العرب لما سكنت الواو من أقمت فسقطت لاجتماعها ، وهي ساكنة ، والميم وهي ساكنة ، بنوا المصدر على ذلك ، إذ جاءت الواو ساكنة قبل ألف الإفعال وهي ساكنة ، فسقطت الأولى منهما ، فأبدلوا منها هاء في آخر الحرف كالتكثير للحرف ، كما فعلوا ذلك في قولهم : وعدته عدة ، ووزنته زنة ، إذ ذهبت الواو من أوله ، كثروه من آخره بالهاء ; فلما أضيفت الإقامة إلى الصلاة ، حذفوا الزيادة التي كانوا زادوها للتكثير وهي الهاء في آخرها ; لأن الخافض وما خفض عندهم كالحرف الواحد ، فاستغنوا بالمضاف إليه من الحرف الزائد ، وقد قال بعضهم في نظير ذلك :
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا وأخلفوك عدى الأمر الذي وعدوا
[ ص: 194 ] يريد : عدة الأمر . فأسقط الهاء من العدة لما أضافها ، فكذلك ذلك في إقام الصلاة .
وقوله ( وإيتاء الزكاة ) قيل : معناه وإخلاص الطاعة لله .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) ( وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة ) ، وقوله : ( وأوصاني بالصلاة والزكاة ) ، وقوله : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ) ، وقوله : ( وحنانا من لدنا وزكاة ) ونحو هذا في القرآن ، قال : يعني بالزكاة : طاعة الله والإخلاص ، وقوله : ( يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ) يقول : يخافون يوما تتقلب فيه القلوب من هوله بين طمع بالنجاة ، وحذر بالهلاك ، والأبصار : أي ناحية يؤخذ بهم ، أذات اليمين أم ذات الشمال ، ومن أين يؤتون كتبهم ، أمن قبل الأيمان ، أو من قبل الشمائل؟ وذلك يوم القيامة .
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال قال عبد الله بن عياش ، في قول الله : ( زيد بن أسلم في بيوت أذن الله أن ترفع ) . . إلى قوله : ( تتقلب فيه القلوب والأبصار ) : يوم القيامة .
وقوله : ( ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ) يقول : فعلوا ذلك ، يعني أنهم لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأطاعوا ربهم ; مخافة عذابه يوم القيامة ، كي يثيبهم الله يوم القيامة بأحسن أعمالهم التي عملوها في الدنيا ، ويزيدهم على ثوابه إياهم على أحسن أعمالهم التي عملوها في الدنيا من فضله ، فيفضل عليهم من عنده بما أحب من كرامته لهم . وقوله : ( والله يرزق من يشاء بغير حساب ) يقول تعالى ذكره : يتفضل على من شاء وأراد من طوله وكرامته ، مما لم يستحقه بعمله ، ولم يبلغه بطاعته ( بغير حساب ) ، يقول : بغير [ ص: 195 ] محاسبة على ما بذل له وأعطاه .