يقول تعالى ذكره : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ، خالدين في الغرفة ، يعني أنهم ماكثون فيها ، لابثون إلى غير أمد ، حسنت تلك الغرفة قرارا لهم ومقاما . يقول : وإقامة . وقوله : ( قل ما يعبأ بكم ربي ) يقول جل ثناؤه لنبيه : قل يا محمد لهؤلاء الذين أرسلت إليهم : أي شيء يعدكم ، وأي شيء يصنع بكم ربي ؟ يقال منه : عبأت به أعبأ عبئا ، [ ص: 322 ] وعبأت الطيب أعبؤه : إذا هيأته ، كما قال الشاعر :
كأن بنحره وبمنكبيه عبيرا بات يعبؤه عروس
يقول : يهيئه ويعمله يعبؤه عبا وعبوءا ، ومنه قولهم : عبأت الجيش بالتشديد والتخفيف فأنا أعبئه : أهيئه والعبء : الثقل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( قل ما يعبأ بكم ربي ) يصنع لولا دعاؤكم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( قل ما يعبأ بكم ربي ) قال : يعبأ : يفعل .
وقوله : ( لولا دعاؤكم ) يقول : لولا عبادة من يعبده منكم ، وطاعة من يطيعه منكم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ) يقول : لولا إيمانكم ، وأخبر الله الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين ، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين .
وحدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( لولا دعاؤكم ) قال : لولا دعاؤكم إياه لتعبدوه وتطيعوه . [ ص: 323 ]
وقوله : ( فقد كذبتم ) يقول تعالى ذكره لمشركي قريش قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقد كذبتم أيها القوم رسولكم الذي أرسل إليكم وخالفتم أمر ربكم الذي أمر بالتمسك به لو تمسكتم به ، كان يعبأ بكم ربي ، فسوف يكون تكذيبكم رسول ربكم ، وخلافكم أمر بارئكم ، عذابا لكم ملازما ، قتلا بالسيوف وهلاكا لكم مفنيا يلحق بعضكم بعضا ، كما قال أبو ذؤيب الهذلي :
ففاجأه بعادية لزام كما يتفجر الحوض اللقيف
يعني باللزام : الكبير الذي يتبع بعضه بعضا ، وباللقيف : المتساقط الحجارة المتهدم ، ففعل الله ذلك بهم ، وصدقهم وعده ، وقتلهم يوم بدر بأيدي أوليائه ، وألحق بعضهم ببعض ، فكان ذلك العذاب اللزام .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ، قال : ثنا محمد بن المثنى محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : أخبرني مولى لشقيق بن ثور أنه سمع سلمان أبا عبد الله ، قال : صليت مع ابن الزبير فسمعته يقرأ : فقد كذب الكافرون .
حدثنا ، قال : ثنا ابن المثنى عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا سعيد بن أدهم السدوسي ، قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة ، عن عبد المجيد ، قال : سمعت مسلم بن عمار ، قال : سمعت ابن عباس يقرأ هذا الحرف : فقد كذب الكافرون ( فسوف يكون لزاما ) .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ) يقول : كذب الكافرون أعداء الله . [ ص: 324 ]
حدثنا ، قال : ثنا ابن المثنى عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن ابن مسعود ، قال : فسوف يلقون لزاما يوم بدر .
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق . قال : قال عبد الرحمن : خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم .
حدثني الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : ( فسوف يكون لزاما ) قال أبي بن كعب : هو القتل يوم بدر .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن عمرو ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : اللزام : يوم بدر .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ، عن ليث ، عن ابن علية مجاهد ( فسوف يكون لزاما ) قال : هو يوم بدر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( فسوف يكون لزاما ) قال : يوم بدر .
حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج مجاهد ، مثله .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن منصور ، عن سفيان ، عن ابن مسعود ، قال : اللزام ، القتل يوم بدر .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ) الكفار كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند الله ، فسوف يكون لزاما ، وهو يوم بدر .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : قد مضى اللزام ، كان اللزام يوم بدر ، أسروا سبعين ، وقتلوا سبعين .
وقال آخرون : معنى اللزام : القتال .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فسوف يكون لزاما ) [ ص: 325 ] قال : فسوف يكون قتالا ، اللزام : القتال .
وقال آخرون : اللزام : الموت .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ( فسوف يكون لزاما ) قال : موتا .
وقال بعض أهل العلم بكلام العرب : معنى ذلك : فسوف يكون جزاء يلزم كل عامل ما عمل من خير أو شر . وقد بينا الصواب من القول في ذلك . وللنصب في اللزام وجه آخر غير الذي قلناه ، وهو أن يكون في قوله ( يكون ) مجهول ، ثم ينصب اللزام على الخبر كما قيل :
إذا كان طعنا بينهم وقتالا
وقد كان بعض من لا علم له بأقوال أهل العلم يقول في تأويل ذلك : قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ما تدعون من دونه من الآلهة والأنداد ، وهذا قول لا معنى للتشاغل به لخروجه عن أقوال أهل العلم من أهل التأويل .
آخر تفسير سورة الفرقان ، والحمد لله وحده .