القول في قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ( 136 ) تأويل قوله تعالى : ( إن هذا إلا خلق الأولين ( 137 ) وما نحن بمعذبين ( 138 ) )
يقول تعالى ذكره : قالت عاد لنبيهم هود صلى الله عليه وسلم : معتدل عندنا وعظك إيانا ، وتركك الوعظ ، فلن نؤمن لك ولن نصدقك على ما جئتنا به .
وقوله : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ; فقرأته عامة قراء المدينة سوى أبي جعفر ، وعامة قراء الكوفة المتأخرين منهم : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) من قبلنا : وقرأ ذلك أبو جعفر ، : " وأبو عمرو بن العلاء إن هذا إلا خلق الأولين " بفتح الخاء وتسكين اللام بمعنى : ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأولين وأحاديثهم .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، نحو اختلاف القراء في قراءته ، فقال بعضهم : معناه : ما هذا إلا دين الأولين وعادتهم وأخلاقهم . [ ص: 378 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) يقول : دين الأولين .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) يقول : هكذا خلقة الأولين ، وهكذا كانوا يحيون ويموتون .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما هذا إلا كذب الأولين وأساطيرهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) قال : أساطير الأولين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( إلا خلق الأولين ) قال : كذبهم .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج مجاهد ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) قال : إن هذا إلا أمر الأولين وأساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا .
حدثنا ، قال : ثنا ابن المثنى عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن علقمة ، عن ابن مسعود : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) يقول : إن هذا إلا اختلاق الأولين .
قال ثنا ، قال . أخبرنا يزيد بن هارون داود ، عن الشعبي ، عن علقمة ، عن عبد الله ، أنه كان يقرأ ( إن هذا إلا خلق الأولين ) ويقول شيء اختلقوه .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ، عن ابن علية داود ، عن الشعبي ، قال : قال علقمة : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) قال : اختلاق الأولين .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب : قراءة من قرأ ( إن هذا إلا خلق الأولين ) [ ص: 379 ] بضم الخاء واللام ، بمعنى : إن هذا إلا عادة الأولين ودينهم ، كما قال ابن عباس ، لأنهم إنما عوتبوا على البنيان الذي كانوا يتخذونه ، وبطشهم بالناس بطش الجبابرة ، وقلة شكرهم ربهم فيما أنعم عليهم ، فأجابوا نبيهم بأنهم يفعلون ما يفعلون من ذلك ، احتذاء منهم سنة من قبلهم من الأمم ، واقتفاء منهم آثارهم ، فقالوا : ما هذا الذي نفعله إلا خلق الأولين ، يعنون بالخلق : عادة الأولين . ويزيد ذلك بيانا وتصحيحا لما اخترنا من القراءة والتأويل ، قولهم : ( وما نحن بمعذبين ) لأنهم لو كانوا لا يقرون بأن لهم ربا يقدر على تعذيبهم ، ما قالوا : ( وما نحن بمعذبين ) بل كانوا يقولون : إن هذا الذي جئتنا به يا هود إلا خلق الأولين ، وما لنا من معذب يعذبنا ، ولكنهم كانوا مقرين بالصانع ، ويعبدون الآلهة ، على نحو ما كان مشركو العرب يعبدونها ، ويقولون إنها تقربنا إلى الله زلفى ، فلذلك قالوا لهود وهم منكرون نبوته : ( سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ) ثم قالوا له : ما هذا الذي نفعله إلا عادة من قبلنا وأخلاقهم ، وما الله معذبنا عليه . كما أخبرنا تعالى ذكره عن الأمم الخالية قبلنا ، أنهم كانوا يقولون لرسلهم : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) .