يقول تعالى ذكره : وإن هذا القرآن لفي زبر الأولين : يعني في كتب الأولين ، وخرج مخرج العموم ومعناه الخصوص ، وإنما هو : وإن هذا القرآن لفي بعض زبر الأولين ; يعني : أن ذكره وخبره في بعض ما نزل من الكتب على بعض رسله . وقوله : ( أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ) يقول تعالى ذكره : أولم يكن لهؤلاء المعرضين عما يأتيك يا محمد من ذكر ربك ، دلالة على أنك رسول رب العالمين ، أن يعلم حقيقة ذلك وصحته علماء بني إسرائيل . وقيل : عني بعلماء بني إسرائيل في هذا الموضع : ومن أشبهه ممن كان قد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن سلام بني إسرائيل في عصره .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ) قال : كان من علماء عبد الله بن سلام بنى إسرائيل ، وكان من خيارهم ، فآمن بكتاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم الله : أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني [ ص: 398 ] إسرائيل وخيارهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( علماء بني إسرائيل ) قال : وغيره من علمائهم . عبد الله بن سلام
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن : ( ابن جريج أولم يكن لهم آية ) قال محمد : ( أن يعلمه ) قال : يعرفه . ( علماء بني إسرائيل ) . قال ، قال ابن جريج مجاهد : علماء بني إسرائيل : ، وغيره من علمائهم . عبد الله بن سلام
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ) قال : أولم يكن للنبي آية ، علامة أن علماء بني إسرائيل كانوا يعلمون أنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم ؟ . وقوله : ( ولو نزلناه على بعض الأعجمين ) يقول تعالى ذكره : ولو نزلنا هذا القرآن على بعض البهائم التي لا تنطق ، وإنما قيل على بعض الأعجمين ، ولم يقل على بعض الأعجميين ، لأن العرب تقول إذا نعتت الرجل بالعجمة وأنه لا يفصح بالعربية : هذا رجل أعجم ، وللمرأة : هذه امرأة عجماء ، وللجماعة : هؤلاء قوم عجم وأعجمون ، وإذا أريد هذا المعنى وصف به العربي والأعجمي ، لأنه إنما يعني أنه غير فصيح اللسان ، وقد يكون كذلك ، وهو من العرب ومن هذا المعنى قول الشاعر :
من وائل لا حي يعدلهم من سوقة عرب ولا عجم
فأما إذا أريد به نسبة الرجل إلى أصله من العجم ، لا وصفه بأنه غير فصيح اللسان ، [ ص: 399 ] فإنه يقال : هذا رجل عجمي ، وهذان رجلان عجميان ، وهؤلاء قوم عجم ، كما يقال : عربي ، وعربيان ، وقوم عرب . وإذا قيل : هذا رجل أعجمي ، فإنما نسب إلى نفسه كما يقال للأحمر : هذا أحمري ضخم ، وكما قال العجاج :
والدهر بالإنسان دواري
ومعناه : دوار ، فنسبه إلى فعل نفسه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ، قال : ثنا ابن المثنى عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن محمد بن أبي موسى ، قال : كنت واقفا إلى جنب عبد الله بن مطيع بعرفة ، فتلا هذه الآية : ( ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ) قال : لو نزل على بعيري هذا فتكلم به ما آمنوا به ( لقالوا لولا فصلت آياته ) حتى يفقهه عربي وعجمي ، لو فعلنا ذلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ، عن داود بن أبي هند محمد بن أبي موسى ، قال : كان عبد الله بن مطيع واقفا بعرفة ، فقرأ هذه الآية ( ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ) قال : فقال : جملي هذا أعجم ، فلو أنزل على هذا ما كانوا به مؤمنين . [ ص: 400 ]
وروي عن قتادة في ذلك ما حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( ولو نزلناه على بعض الأعجمين ) قال : لو نزله الله أعجميا كانوا أخسر الناس به ، لأنهم لا يعرفون بالعجمية .
وهذا الذي ذكرناه عن قتادة قول لا وجه له ، لأنه وجه الكلام أن معناه : ولو أنزلناه أعجميا ، وإنما التنزيل ( ولو نزلناه على بعض الأعجمين ) يعني : ولو نزلنا هذا القرآن العربي على بهيمة من العجم أو بعض ما لا يفصح ، ولم يقل : ولو نزلناه أعجميا . فيكون تأويل الكلام ما قاله .
وقوله ( فقرأه عليهم ) يقول : فقرأ هذا القرآن _ على كفار قومك يا محمد الذين حتمت عليهم أن لا يؤمنوا ذلك الأعجم ما كانوا به مؤمنين . يقول : لم يكونوا ليؤمنوا به ، لما قد جرى لهم في سابق علمي من الشقاء ، وهذا تسلية من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن قومه ، لئلا يشتد وجده بإدبارهم عنه ، وإعراضهم عن الاستماع لهذا القرآن ، لأنه كان صلى الله عليه وسلم شديدا حرصه على قبولهم منه ، والدخول فيما دعاهم إليه ، حتى عاتبه ربه على شدة حرصه على ذلك منهم ، فقال له : ( لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ) ثم قال مؤيسه من إيمانهم وأنهم هالكون ببعض مثلاته ، كما هلك بعض الأمم الذين قص عليهم قصصهم في هذه السورة . ولو نزلناه على بعض الأعجمين يا محمد لا عليك ، فإنك رجل منهم ، ويقولون لك : ما أنت إلا بشر مثلنا ، وهلا نزل به ملك ، فقرأ ذلك الأعجم عليهم هذا القرآن ، ولم يكن لهم علة يدفعون بها أنه حق ، وأنه تنزيل من عندي ، ما كانوا به مصدقين ، فخفض من حرصك على إيمانهم به ، ثم وكد تعالى ذكره الخبر عما قد حتم على هؤلاء المشركين ، الذين أيس نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من إيمانهم من الشقاء والبلاء ، فقال : كما حتمنا على هؤلاء أنهم لا يؤمنون بهذا القرآن ( ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم كذلك سلكناه ) التكذيب والكفر ( في قلوب المجرمين ) . ويعني بقوله : سلكنا : أدخلنا ، والهاء في قوله ( سلكناه ) كناية من ذكر قوله ( ما كانوا به مؤمنين ) ، كأنه قال : كذلك أدخلنا في قلوب المجرمين ترك الإيمان بهذا القرآن .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 401 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ، قوله : ( ابن جريج كذلك سلكناه ) قال : الكفر ( في قلوب المجرمين ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ) .
حدثني علي بن سهل ، قال : ثنا ، عن زيد بن أبي الزرقاء سفيان ، عن حميد ، عن الحسن ، في هذه الآية : ( كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ) قال : خلقناه .
قال : ثنا زيد ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، قال : سألت الحسن في بيت أبي خليفة ، عن قوله ( كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ) قال : الشرك سلكه في قلوبهم . وقوله : ( لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ) يقول : فعلنا ذلك بهم لئلا يصدقوا بهذا القرآن ، حتى يروا العذاب الأليم في عاجل الدنيا ، كما رأت ذلك الأمم الذين قص الله قصصهم في هذه السورة . ورفع قوله ( لا يؤمنون ) لأن العرب من شأنها إذا وضعت في موضع مثل هذا الموضع " لا " ربما جزمت ما بعدها ، وربما رفعت فتقول : ربطت الفرس لا تنفلت ، وأحكمت العقد لا ينحل ، جزما ورفعا . وإنما تفعل ذلك لأن تأويل ذلك : إن لم أحكم العقد انحل ، فجزمه على التأويل ، ورفعه بأن الجازم غير ظاهر .
ومن الشاهد على الجزم في ذلك قول الشاعر :
لو كنت إذ جئتنا حاولت رؤيتنا أو جئتنا ماشيا لا يعرف الفرس
وقول الآخر : [ ص: 402 ]
لطالما حلأتماها لا ترد فخلياها والسجال تبترد