القول في تأويل قوله تعالى : ( قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها  قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين   ( 44 ) ) 
ذكر أن سليمان  لما أقبلت صاحبة سبأ  تريده ، أمر الشياطين فبنوا له صرحا ، وهو كهيئة السطح من قوارير ، وأجرى من تحته الماء ليختبر عقلها بذلك ، وفهمها على نحو الذي كانت تفعل هي من توجيهها إليه الوصائف والوصفاء ليميز بين الذكور منهم والإناث معاتبة بذلك كذلك .  [ ص: 473 ] 
حدثنا ابن حميد  ، قال : ثنا سلمة  ، عن ابن إسحاق  ، عن بعض أهل العلم ، عن  وهب بن منبه  ، قال : أمر سليمان  بالصرح ، وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضا ، ثم أرسل الماء تحته ، ثم وضع له فيه سريره ، فجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس ، ثم قال : ( ادخلي الصرح   ) ليريها ملكا هو أعز من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها ( فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها   ) لا تشك أنه ماء تخوضه ، قيل لها : ادخلي إنه صرح ممرد من قوارير ; فلما وقفت على سليمان  دعاها إلى عبادة الله ونعى عليها في عبادتها الشمس دون الله ، فقالت بقول الزنادقة ، فوقع سليمان  ساجدا إعظاما لما قالت ، وسجد معه الناس ; وسقط في يديها حين رأت سليمان  صنع ما صنع ; فلما رفع سليمان  رأسه قال : ويحك ماذا قلت ؟ قال : وأنسيت ما قالت : ، فقالت : ( رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين   ) وأسلمت ، فحسن إسلامها . 
وقيل : إن سليمان  إنما أمر ببناء الصرح على ما وصفه الله ، لأن الجن خافت من سليمان  أن يتزوجها ، فأرادوا أن يزهدوه فيها ، فقالوا : إن رجلها رجل حمار ، وإن أمها كانت من الجن ، فأراد سليمان  أن يعلم حقيقة ما أخبرته الجن من ذلك . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا ابن حميد  ، قال : ثنا سلمة  ، عن أبي معشر  ، عن  محمد بن كعب القرظي  ، قال : قالت الجن لسليمان  تزهده في بلقيس   : إن رجلها رجل حمار ، وإن أمها كانت من الجن . فأمر سليمان  بالصرح ، فعمل ، فسجن فيه دواب البحر : الحيتان ، والضفادع ; فلما بصرت بالصرح قالت : ما وجد ابن داود  عذابا يقتلني به إلا الغرق ؟ ( حسبته لجة وكشفت عن ساقيها   ) قال : فإذا أحسن الناس ساقا وقدما . قال : فضن سليمان  بساقها عن الموسى ، قال : فاتخذت النورة بذلك السبب . 
وجائز عندي أن يكون سليمان  أمر باتخاذ الصرح للأمرين الذي قاله وهب  ، والذي قاله  محمد بن كعب القرظي  ، ليختبر عقلها ، وينظر إلى ساقها وقدمها ، ليعرف صحة ما قيل له فيها . 
وكان مجاهد  يقول - فيما ذكر عنه في معنى الصرح - ما حدثني محمد بن عمرو  ، قال : ثنا أبو عاصم  ، قال : ثنا عيسى   ; وحدثني الحارث  ، قال : ثنا الحسن  ، قال :  [ ص: 474 ] ثنا ورقاء  جميعا ، عن ابن أبي نجيح  ، عن مجاهد  ، قوله : ( الصرح ) قال : بركة من ماء ضرب عليها سليمان  قوارير ألبسها . قال : وكانت بلقيس  هلباء شعراء ، قدمها كحافر الحمار ، وكانت أمها جنية  . 
حدثني أحمد بن الوليد الرملي  ، قال : ثنا هشام بن عمار  ، قال : ثنا  الوليد بن مسلم  ، عن  سعيد بن بشير  ، عن قتادة  ، عن النضر بن أنس  ، عن بشير بن نهيك  ، عن  أبي هريرة  ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان أحد أبوي صاحبة سبأ جنيا " . 
قال : ثنا صفوان بن صالح  ، قال : ثني الوليد  ، عن  سعيد بن بشير  ، عن قتادة  ، عن بشير بن نهيك  ، عن  أبي هريرة  ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر النضر بن أنس   . 
وقوله : ( فلما رأته حسبته لجة   ) يقول : فلما رأت المرأة الصرح حسبته لبياضه واضطراب دواب الماء تحته لجة بحر كشفت من ساقيها ; لتخوضه إلى سليمان   . 
ونحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا القاسم  ، قال : ثنا الحسين  ، قال : ثنا أبو سفيان  ، عن معمر  ، عن قتادة   : ( قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة   ) قال : وكان من قوارير ، وكان الماء من خلفه فحسبته لجة . 
قال : ثنا الحسين  ، قال : ثني حجاج  ، عن  ابن جريج  ، قوله : ( حسبته لجة   ) قال : بحرا . 
حدثنا عمرو بن علي  ، قال : ثنا ابن سوار  ، قال : ثنا روح بن القاسم  ، عن عطاء بن السائب  ، عن مجاهد  ، في قوله : ( وكشفت عن ساقيها   ) فإذا هما شعراوان ، فقال : ألا شيء يذهب هذا ؟ قالوا : الموسى ، قال : لا الموسى له أثر ، فأمر بالنورة فصنعت . 
حدثني أبو السائب  ، قال : ثنا حفص  ، عن عمران بن سليمان  ، عن عكرمة  وأبي صالح  قالا : لما تزوج سليمان  بلقيس  قالت له : لم تمسني حديدة قط ، قال سليمان للشياطين : انظروا ما يذهب الشعر ؟ قالوا : النورة ، فكان أول من صنع النورة  .  [ ص: 475 ] 
وقوله : ( إنه صرح ممرد من قوارير   ) يقول جل ثناؤه : قال سليمان  لها : إن هذا ليس ببحر ، إنه صرح ممرد من قوارير ، يقول : إنما هو بناء مبني مشيد من قوارير . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا القاسم  ، قال : ثنا الحسين  ، قال : ثني حجاج  ، عن  ابن جريج   : ( ممرد ) قال : مشيد . 
وقوله : ( قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان   ) . . . الآية ، يقول تعالى ذكره : قالت المرأة صاحبة سبأ   : رب إني ظلمت نفسي في عبادتي الشمس ، وسجودي لما دونك ( وأسلمت مع سليمان لله   ) تقول : وانقدت مع سليمان  مذعنة لله بالتوحيد ، مفردة له بالألوهة والربوبية دون كل من سواه . 
وكان ابن زيد  يقول في ذلك ما حدثني يونس  ، قال : أخبرنا ابن وهب  ، قال : قال ابن زيد  في : ( حسبته لجة   ) قال : ( إنه صرح ممرد من قوارير   ) فعرفت أنها قد غلبت ( قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين   ) . 
				
						
						
