يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( قل ) يا محمد لسائليك من المشركين عن الساعة متى هي قائمة ( لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب ) الذي قد استأثر الله بعلمه ، وحجب عنه خلقه غيره ، والساعة من ذلك ( وما يشعرون ) يقول : وما يدري من في السموات والأرض من خلقه متى هم مبعوثون من قبورهم لقيام الساعة .
وقد حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا قال : أخبرنا ابن علية ، ، عن داود بن أبي هند الشعبي ، عن مسروق ، قال : قالت عائشة : من زعم أنه يخبر الناس بما يكون في غد ، فقد أعظم على الله الفرية ، والله يقول : ( لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب ) .
واختلف أهل العربية في وجه رفع الله ، فقال بعض البصريين : هو كما تقول : إلا قليل منهم . وفي حرف ابن مسعود : قليلا بدلا من الأول ، لأنك نفيته عنه وجعلته للآخر . [ ص: 487 ]
وقال بعض الكوفيين : إن شئت أن تتوهم في " من " المجهول ، فتكون معطوفة على : قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله . قال : ويجوز أن تكون " من " معرفة ، ونزل ما بعد " إلا " عليه ، فيكون عطفا ولا يكون بدلا لأن الأول منفي ، والثاني مثبت ، فيكون في النسق كما تقول : قام زيد إلا عمرو ، فيكون الثاني عطفا على الأول ، والتأويل جحد ، ولا يكون أن يكون الخبر جحدا ، أو الجحد خبرا . قال : وكذلك ( ما فعلوه إلا قليل ) وقليلا ، من نصب فعلى الاستثناء في عبادتكم إياه ، ومن رفع فعلى العطف ، ولا يكون بدلا .
وقوله : ( بل ادارك علمهم في الآخرة ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة سوى أبي جعفر وعامة قراء أهل الكوفة : ( بل ادارك ) بكسر اللام من " بل " وتشديد الدال من " ادارك " ، بمعنى : بل تدارك علمهم ، أي تتابع علمهم بالآخرة هل هي كائنة أم لا ثم أدغمت التاء في الدال كما قيل : ( اثاقلتم إلى الأرض ) وقد بينا ذلك فيما مضى بما فيه الكفاية من إعادته .
وقرأته عامة قراء أهل مكة : " بل أدرك علمهم في الآخرة " بسكون الدال وفتح الألف ، بمعنى هل أدرك علمهم علم الآخرة . وكان أبو عمرو بن العلاء ينكر فيما ذكر عنه قراءة من قرأ : " بل أدرك " ويقول : إن " بل " إيجاب ، والاستفهام في هذا الموضع إنكار . ومعنى الكلام : إذا قرئ كذلك " بل أدرك " لم يكن ذلك لم يدرك علمهم في الآخرة ، وبالاستفهام قرأ ذلك ابن محيصن على الوجه الذي ذكرت أن أبا عمرو أنكره .
وبنحو الذي ذكرت عن المكيين أنهم قرءوه ، ذكر عن مجاهد أنه قرأه ، غير أنه كان يقرأ في موضع بل : أم .
حدثنا ، قال : ثنا ابن المثنى عبد الله بن موسى ، قال : ثنا عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، أنه قرأ " أم أدرك علمهم " وكان ابن عباس فيما ذكر عنه يقرأ بإثبات ياء في بل ، ثم يبتدئ " أدارك " بفتح ألفها على وجه الاستفهام وتشديد الدال .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس في هذه الآية : " بلى أدارك علمهم في الآخرة " : أي لم يدرك .
حدثنا ، قال : ثنا محمد بن المثنى محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي حمزة ، قال : سمعت ابن عباس يقرأ " بلى أدارك علمهم في الآخرة " إنما هو استفهام أنه لم يدرك . [ ص: 488 ] وكأن ابن عباس وجه ذلك إلى أن مخرجه مخرج الاستهزاء بالمكذبين بالبعث .
والصواب من القراءات عندنا في ذلك ، القراءتان اللتان ذكرت إحداهما عن قرأة أهل مكة والبصرة ، وهي " بل أدرك علمهم " بسكون لام بل ، وفتح ألف أدرك ، وتخفيف دالها ، والأخرى منهما عن قرأة الكوفة ، وهي ( بل ادارك ) بكسر اللام وتشديد الدال من ادارك ; لأنهما القراءتان المعروفتان في قراء الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب عندنا . فأما القراءة التي ذكرت عن ابن عباس ، فإنها وإن كانت صحيحة المعنى والإعراب ، فخلاف لما عليه مصاحف المسلمين ، وذلك أن في بلى زيادة ياء في قراءاته ليست في المصاحف ، وهي مع ذلك قراءة لا نعلمها قرأ بها أحد من قراء الأمصار . وأما القراءة التي ذكرت عن ابن محيصن ، فإن الذي قال فيها أبو عمرو قول صحيح ; لأن العرب تحقق ببل ما بعدها لا تنفيه ، والاستفهام في هذا الموضع إنكار لا إثبات ، وذلك أن الله قد أخبر عن المشركين أنهم من الساعة في شك ، فقال : ( بل هم في شك منها بل هم منها عمون ) .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : بل أدرك علمهم في الآخرة فأيقنوها إذ عاينوها حين لم ينفعهم يقينهم بها ، إذ كانوا بها في الدنيا مكذبين .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن قال : قال ابن جريج ، ، عن عطاء الخراساني ابن عباس : " بل أدرك علمهم " قال : بصرهم في الآخرة حين لم ينفعهم العلم والبصر .
وقال آخرون : بل معناه : بل غاب علمهم في الآخرة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " بل أدرك علمهم في الآخرة " يقول : غاب علمهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( بل ادارك علمهم في الآخرة ) قال : يقول : ضل علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم ، ( هم منها عمون ) .
وقال آخرون : معنى ذلك : لم يبلغ لهم فيها علم . [ ص: 489 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، عن جدي ، قال : ثنا الحسين ، عن قتادة في قوله : ( بل ادارك علمهم في الآخرة ) قال : كان يقرؤها : " بل أدرك علمهم في الآخرة " قال : لم يبلغ لهم فيها علم ، ولا يصل إليها منهم رغبة .
وقال آخرون : معنى ذلك : بل أدرك : أم أدرك .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " بل أدرك علمهم " قال : أم أدرك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عثمان ، عن مجاهد : " بل أدرك علمهم " قال : أم أدرك علمهم ، من أين يدرك علمهم ؟
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد ، بنحوه .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب على قراءة من قرأ " بل أدرك " القول الذي ذكرناه عن ، عن عطاء الخراساني ابن عباس ، وهو أن معناه : إذا قرئ كذلك ( وما يشعرون أيان يبعثون ) بل أدرك علمهم نفس وقت ذلك في الآخرة حين يبعثون ، فلا ينفعهم علمهم به حينئذ ، فأما في الدنيا فإنهم منها في شك ، بل هم منها عمون .
وإنما قلت : هذا القول أولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب ، على القراءة التي ذكرت ; لأن ذلك أظهر معانيه . وإذ كان ذلك معناه ، كان في الكلام محذوف قد استغني بدلالة ما ظهر منه عنه ، وذلك أن معنى الكلام : وما يشعرون أيان يبعثون ، بل يشعرون ذلك في الآخرة ، فالكلام إذا كان ذلك معناه ، وما يشعرون أيان يبعثون ، بل أدرك علمهم بذلك في الآخرة ، بل هم في الدنيا في شك منها . وأما على قراءة من قرأه ( بل ادارك ) بكسر اللام وتشديد الدال ، فالقول الذي ذكرنا عن مجاهد ، وهو أن يكون معنى بل : أم ، والعرب تضع أم موضع بل ، وموضع بل : أم ، إذا كان في أول الكلام استفهام [ ص: 490 ] كما قال الشاعر :
فوالله ما أدري أسلمى تغولت أم النوم أم كل إلي حبيب
يعني بذلك بل كل إلي حبيب ، فيكون تأويل الكلام : وما يشعرون أيان يبعثون ، بل تدارك علمهم في الآخرة : يعني تتابع علمهم في الآخرة : أي بعلم الآخرة : أي لم يتتابع بذلك ولم يعلموه ، بل غاب علمهم عنه ، وضل فلم يبلغوه ولم يدركوه .
وقوله : ( بل هم في شك منها ) يقول : بل هؤلاء المشركون الذين يسألونك عن الساعة في شك من قيامها ، لا يوقنون بها ولا يصدقون بأنهم مبعوثون من بعد الموت ( بل هم منها عمون ) يقول : بل هم من العلم بقيامها عمون .