الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ( 39 ) )

يقول - تعالى ذكره - : وما أعطيتم أيها الناس ، بعضكم بعضا من عطية ؛ لتزداد في [ ص: 104 ] أموال الناس برجوع ثوابها إليه ، ممن أعطاه ذلك ، ( فلا يربو عند الله ) ، يقول : فلا يزداد ذلك عند الله ، لأن صاحبه لم يعطه من أعطاه مبتغيا به وجهه ( وما آتيتم من زكاة ) يقول : وما أعطيتم من صدقة تريدون بها وجه الله ، ( فأولئك ) يعني الذين يتصدقون بأموالهم ، ملتمسين بذلك وجه الله ( هم المضعفون ) يقول : هم الذين لهم الضعف من الأجر والثواب . من قول العرب : أصبح القوم مسمنين معطشين ، إذا سمنت إبلهم وعطشت .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ) قال : هو ما يعطي الناس بينهم بعضهم بعضا ، يعطي الرجل الرجل العطية ، يريد أن يعطى أكثر منها .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن منصور بن صفية ، عن سعيد بن جبير ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس ) قال : هو الرجل يعطي الرجل العطية ليثيبه .

قال : ثنا يحيى قال : ثنا سفيان ، عن منصور بن صفية ، عن سعيد بن جبير مثله .

حدثنا ابن وكيع قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن منصور بن صفية ، عن سعيد بن جبير ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ) قال : الرجل يعطي ليثاب عليه .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا يحيى بن سعيد قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس ) قال : الهدايا .

حدثنا ابن وكيع قال : ثني أبي ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : هي الهدايا .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس ) قال : يعطي ماله يبتغي أفضل منه .

حدثنا ابن وكيع قال : ثنا ابن فضيل ، عن ابن أبي خالد ، عن إبراهيم قال : [ ص: 105 ] هو الرجل يهدي إلى الرجل الهدية ؛ ليثيبه أفضل منها .

قال : ثنا محمد بن حميد المعمري ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : هو الرجل يعطي العطية ، ويهدي الهدية ، ليثاب أفضل من ذلك ، ليس فيه أجر ولا وزر .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ) قال : ما أعطيت من شيء تريد مثابة الدنيا ، ومجازاة الناس ذاك الربا الذي لا يقبله الله ، ولا يجزي به .

حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس ) فهو ما يتعاطى الناس بينهم ويتهادون ، يعطي الرجل العطية ؛ ليصيب منه أفضل منها ، وهذا للناس عامة .

وأما قوله : ( ولا تمنن تستكثر ) فهذا للنبي خاصة ، لم يكن له أن يعطي إلا لله ، ولم يكن يعطي ليعطى أكثر منه .

وقال آخرون : إنما عنى بهذا الرجل يعطي ماله الرجل ليعينه بنفسه ، ويخدمه ، ويعود عليه نفعه ، لا لطلب أجر من الله .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع قال : ثنا أبي ومحمد بن فضيل ، عن زكريا ، عن عامر ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس ) قال : هو الرجل يلزق بالرجل ، فيخف له ويخدمه ، ويسافر معه ، فيجعل له ربح بعض ماله ليجزيه ، وإنما أعطاه التماس عونه ، ولم يرد وجه الله .

وقال آخرون : هو إعطاء الرجل ماله ليكثر به مال من أعطاه ذلك ، لا طلب ثواب الله .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي حصين ، عن ابن عباس ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس ) قال : ألم تر إلى الرجل يقول للرجل : لأمولنك ، فيعطيه ، فهذا لا يربو عند الله ؛ لأنه يعطيه لغير الله ليثري ماله .

قال ثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن إسماعيل بن أبي خالد قال : سمعت إبراهيم النخعي يقول في قوله : ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ) قال : كان هذا في الجاهلية ، يعطي أحدهم ذا القرابة [ ص: 106 ] المال يكثر به ماله .

وقال آخرون : ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، وأما لغيره فحلال .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع قال : ثنا أبي ، عن أبي رواد ، عن الضحاك ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ) هذا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، هذا الربا الحلال .

وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك ؛ لأنه أظهر معانيه .

واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الكوفة والبصرة وبعض أهل مكة ، ( ليربو ) بفتح الياء من يربو ، بمعنى : وما آتيتم من ربا ليربو ذلك الربا في أموال الناس ، وقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة : ( لتربوا ) بالتاء من تربوا وضمها ، بمعنى : وما آتيتم من ربا لتربوا أنتم في أموال الناس .

والصواب من القول في ذلك عندنا ، أنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار مع تقارب معنييهما ؛ لأن أرباب المال إذا أربوا ربا المال ، وإذا ربا المال فبإرباء أربابه إياه ربا ، فإذا كان ذلك كذلك ، فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب .

وأما قوله : ( وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ) فإن أهل التأويل قالوا في تأويله نحو الذي قلنا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ) قال : هذا الذي يقبله الله ويضعفه لهم عشر أمثالها ، وأكثر من ذلك .

حدثنا عن عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : قال ابن عباس قوله : ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ) قال : هي الهبة ، يهب الشيء يريد أن يثاب عليه أفضل منه ، فذلك الذي لا يربو عند الله ، لا يؤجر فيه صاحبه ، ولا إثم عليه ( وما آتيتم من زكاة ) قال : هي الصدقة تريدون وجه الله ( فأولئك هم المضعفون ) قال معمر : قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثل ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية