القول في تأويل قوله تعالى : ( ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ( 41 ) )
يقول - تعالى ذكره - : ظهرت المعاصي في بر الأرض وبحرها بكسب أيدي الناس ما نهاهم الله عنه . [ ص: 108 ]
واختلف أهل التأويل في المراد من قوله : ( ظهر الفساد في البر والبحر ) فقال بعضهم : عنى بالبر ، الفلوات ، وبالبحر : الأمصار والقرى التي على المياه والأنهار .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب قال : ثنا عثام قال : ثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ) الآية ، قال : إذا ولي سعى بالتعدي والظلم ، فيحبس الله القطر ، ف ( يهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ) قال : ثم قرأ مجاهد : ( ظهر الفساد في البر والبحر ) الآية ، قال : ثم قال : أما والله ما هو بحركم هذا ، ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر .
حدثنا ابن وكيع قال : ثنا أبي ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة ( ظهر الفساد في البر والبحر ) قال : أما إني لا أقول بحركم هذا ، ولكن كل قرية على ماء جار .
قال : ثنا عن يزيد بن هارون ، عمرو بن فروخ ، عن حبيب بن الزبير ، عن عكرمة ( ظهر الفساد في البر والبحر ) قال : إن العرب تسمي الأمصار بحرا .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) قال : هذا قبل أن يبعث الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، امتلأت ضلالة وظلما ، فلما بعث الله نبيه رجع راجعون من الناس .
قوله : ( ظهر الفساد في البر والبحر ) أما البر فأهل العمود ، وأما البحر فأهل القرى والريف .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( ظهر الفساد في البر والبحر ) قال : الذنوب ، وقرأ ( ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا أبو عامر قال : ثنا قرة ، عن الحسن في قوله : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) قال : أفسدهم الله بذنوبهم ، في بحر الأرض وبرها بأعمالهم الخبيثة .
وقال آخرون : بل عنى بالبر : ظهر الأرض ، الأمصار وغيرها ، والبحر : البحر المعروف . [ ص: 109 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ( ظهر الفساد في البر والبحر ) قال : في البر : ابن آدم الذي قتل أخاه ، وفي البحر : الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا .
حدثني يعقوب قال : قال أبو بشر - يعني : ابن علية - : قال : سمعت ابن أبي نجيح ، يقول في قوله : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) قال : بقتل ابن آدم ، والذي كان يأخذ كل سفينة غصبا .
حدثنا ابن وكيع قال : ثنا عن يزيد بن هارون ، عن فضيل بن مرزوق ، عطية ( ظهر الفساد في البر والبحر ) قال : قلت : هذا البر ، والبحر أي فساد فيه ؟ قال : فقال : إذا قل المطر ، قل الغوص .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( ظهر الفساد في البر ) قال : قتل ابن آدم أخاه ، ( والبحر ) قال : أخذ الملك السفن غصبا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن الله - تعالى ذكره - أخبر أن الفساد قد ظهر في البر والبحر عند العرب في الأرض القفار ، والبحر بحران : بحر ملح ، وبحر عذب ، فهما جميعا عندهم بحر ، ولم يخصص جل ثناؤه الخبر عن ظهور ذلك في بحر دون بحر ، فذلك على ما وقع عليه اسم بحر عذبا كان أو ملحا . إذا كان ذلك كذلك ، دخل القرى التي على الأنهار والبحار .
فتأويل الكلام إذن إذ كان الأمر كما وصفت ، ظهرت معاصي الله في كل مكان من بر وبحر ( بما كسبت أيدي الناس ) : أي بذنوب الناس ، وانتشر الظلم فيهما .
وقوله : ( ليذيقهم بعض الذي عملوا ) يقول جل ثناؤه : ليصيبهم بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوا ، ومعصيتهم التي عصوا ( لعلهم يرجعون ) يقول : كي ينيبوا إلى الحق ، ويرجعوا إلى التوبة ، ويتركوا معاصي الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 110 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال : ثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن الحسن ( لعلهم يرجعون ) قال : يتوبون .
قال : ثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن عن السدي ، أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ( لعلهم يرجعون ) يوم بدر لعلهم يتوبون .
قال : ثنا أبو أسامة ، عن زائدة ، عن منصور ، عن إبراهيم ( لعلهم يرجعون ) قال : إلى الحق .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) : لعل راجعا أن يرجع ، لعل تائبا أن يتوب ، لعل مستعتبا أن يستعتب .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا أبو عامر قال : ثنا قرة ، عن الحسن ( لعلهم يرجعون ) قال : يرجع من بعدهم .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( ليذيقهم ) فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار ( ليذيقهم ) بالياء ، بمعنى : ليذيقهم الله بعض الذي عملوا ، وذكر أن أبا عبد الرحمن السلمي قرأ ذلك بالنون على وجه الخبر من الله عن نفسه بذلك .