اختلف أهل العربية في معنى الهاء والألف اللتين في قوله : ( إنها ) فقال بعض نحويي البصرة : ذلك كناية عن المعصية والخطيئة . ومعنى الكلام عنده : يا بني ، إن المعصية إن تك مثقال حبة من خردل ، أو إن الخطيئة . وقال بعض نحويي الكوفة : وهذه الهاء عماد . وقال : أنث " تك " ، لأنه يراد بها الحبة ، فذهب بالتأنيث إليها ، كما قال الشاعر :
وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم
وقال صاحب هذه المقالة : يجوز نصب المثقال ورفعه ، قال : فمن رفع رفعه ( ب " تك " ) ، واحتملت النكرة أن لا يكون لها فعل في كان وليس وأخواتها ، ومن نصب جعل في " تكن " اسما مضمرا مجهولا مثل الهاء التي في قوله : ( إنها إن تك ) : ومثله قوله : ( فإنها لا تعمى الأبصار ) قال : ولو كان ( إن يك مثقال حبة ) كان صوابا ، وجاز فيه الوجهان . وأما صاحب المقالة الأولى ، فإن نصب مثقال في قوله على أنه خبر ، وتمام كان ، وقال : رفع بعضهم فجعلها كان التي لا تحتاج إلى خبر .
وأولى القولين بالصواب عندي ، القول الثاني ؛ لأن الله - تعالى ذكره - لم يعد عباده أن يوفيهم جزاء سيئاتهم دون جزاء حسناتهم ، فيقال : إن المعصية إن تك مثقال حبة من خردل يأت الله بها ، بل وعد كلا العاملين أن يوفيه جزاء أعمالهما . فإذا كان ذلك كذلك ، كانت الهاء في قوله : ( إنها ) بأن تكون عمادا أشبه منها بأن تكون كناية عن الخطيئة والمعصية . وأما النصب في المثقال ، فعلى أن في " تك " مجهولا والرفع فيه على أن الخبر مضمر ، كأنه قيل : إن تك في موضع مثقال حبة ؛ لأن النكرات تضمر أخبارها ، [ ص: 141 ] ثم يترجم عن المكان الذي فيه مثقال الحبة .
وعنى بقوله : ( مثقال حبة ) : زنة حبة . فتأويل الكلام إذن : إن الأمر إن تك زنة حبة من خردل من خير أو شر عملته ، فتكن في صخرة ، أو في السموات ، أو في الأرض ، يأت بها الله يوم القيامة ، حتى يوفيك جزاءه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل ) من خير أو شر .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( فتكن في صخرة ) فقال بعضهم : عنى بها الصخرة التي عليها الأرض ، وذلك قول روي عن ابن عباس وغيره ، وقالوا : هي صخرة خضراء .
ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب قال : ثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن عبد الله بن الحارث قال : الصخرة خضراء على ظهر حوت .
حدثنا موسى بن هارون قال : ثنا عمرو قال : ثنا أسباط ، عن في خبر ذكره عن السدي أبي مالك عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن عبد الله ، وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : خلق الله الأرض على حوت ، والحوت هو النون الذي ذكر الله في القرآن ( ن والقلم وما يسطرون ) والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح ، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ، ولا في الأرض .
وقال آخرون : عنى بها الجبال ، قالوا : ومعنى الكلام : فتكن في جبل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : ( فتكن في صخرة ) أي : جبل .
وقوله : ( يأت بها الله ) كان بعضهم يوجه معناه إلى : يعلمه الله ، ولا أعرف يأتي به بمعنى : يعلمه ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد أن لقمان إنما [ ص: 142 ] وصف الله بذلك ؛ لأن الله يعلم أماكنه ، لا يخفى عليه مكان شيء منه ، فيكون وجها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن ويحيى قالا : ثنا أبو سفيان ، عن عن السدي ، أبي مالك ( فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله ) قال : يعلمها الله .
حدثنا ابن وكيع قال : ثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن عن السدي ، أبي مالك مثله .
وقوله : ( إن الله لطيف خبير ) يقول : إن الله لطيف باستخراج الحبة من موضعها حيث كانت ، خبير بموضعها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( إن الله لطيف خبير ) أي : لطيف باستخراجها ، خبير بمستقرها .