يعني - تعالى ذكره - بقوله : ( وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم ) وإذ قال بعضهم : يا أهل يثرب ، ويثرب : اسم أرض ، فيقال : إن مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناحية من يثرب . وقوله : ( لا مقام لكم فارجعوا ) بفتح الميم من مقام . يقول : لا مكان لكم ، تقومون فيه ، كما قال الشاعر :
فأيي ما وأيك كان شرا فقيد إلى المقامة لا يراها
قوله : ( فارجعوا ) يقول : فارجعوا إلى منازلكم ، أمرهم بالهرب من عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والفرار منه ، وترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : إن ذلك من قيل أوس بن قيظي ومن وافقه على رأيه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : ثني يزيد بن رومان ( وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب ) إلى ( فرارا ) يقول : أوس بن قيظي ومن كان على ذلك من رأيه من قومه ، والقراءة على فتح الميم من قوله : ( لا مقام لكم ) بمعنى : لا موضع قيام لكم ، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها ، لإجماع الحجة من القراء [ ص: 226 ] عليها . وذكر عن أنه قرأ ذلك ( لا مقام لكم ) بضم الميم ؛ يعني : لا إقامة لكم . أبي عبد الرحمن السلمي
وقوله : ( ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة ) يقول - تعالى ذكره - : ويستأذن بعضهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإذن بالانصراف عنه إلى منزله ، ولكنه يريد الفرار والهرب من عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ويستأذن فريق منهم النبي ) إلى قوله : ( إلا فرارا ) قال : هم بنو حارثة ، قالوا : بيوتنا مخلية نخشى عليها السرق .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( إن بيوتنا عورة ) قال : نخشى عليها السرق .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة ) وإنها مما يلي العدو ، وإنا نخاف عليها السراق ، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يجد بها عدوا ، قال الله : ( إن يريدون إلا فرارا ) يقول : إنما كان قولهم ذلك ( إن بيوتنا عورة ) إنما كان يريدون بذلك الفرار .
حدثنا محمد بن سنان القزاز قال : ثنا عبيد الله بن حمران قال : ثنا عبد السلام بن شداد أبو طالوت عن أبيه في هذه الآية ( إن بيوتنا عورة وما هي بعورة ) قال : ضائعة .
وقوله : ( ولو دخلت عليهم من أقطارها ) يقول : ولو دخلت المدينة على هؤلاء القائلين ( إن بيوتنا عورة ) من أقطارها ، يعني : من جوانبها ونواحيها ، واحدها : قطر ، وفيها لغة أخرى : قتر ، وأقتار ، ومنه قول الراجز :
إن شئت أن تدهن أو تمرا فولهن قترك الأشرا
وقوله : ( ثم سئلوا الفتنة ) يقول : ثم سئلوا الرجوع من الإيمان إلى الشرك ( لآتوها ) يقول : لفعلوا ورجعوا عن الإسلام وأشركوا . وقوله : ( وما تلبثوا بها إلا يسيرا ) يقول : وما احتبسوا عن إجابتهم إلى الشرك إلا يسيرا قليلا ولأسرعوا إلى ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ولو دخلت عليهم من أقطارها ) أي : لو دخل عليهم من نواحي المدينة ( ثم سئلوا الفتنة ) : أي : الشرك ( لآتوها ) يقول : لأعطوها . ( وما تلبثوا بها إلا يسيرا ) يقول : إلا أعطوه طيبة به أنفسهم ما يحتبسونه .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( ولو دخلت عليهم من أقطارها ) يقول : لو دخلت المدينة عليهم من نواحيها ( ثم سئلوا الفتنة لآتوها ) سئلوا أن يكفروا لكفروا . قال : وهؤلاء المنافقون لو دخلت عليهم الجيوش ، والذين يريدون قتالهم ، ثم سئلوا أن يكفروا لكفروا . قال : والفتنة : الكفر ، وهي التي يقول الله : ( الفتنة أشد من القتل ) أي : الكفر . يقول : يحملهم الخوف منهم ، وخبث الفتنة التي هم عليها من النفاق على أن يكفروا به .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( لآتوها ) فقرأ ذلك عامة قراء المدينة وبعض قراء مكة : ( لأتوها ) بقصر الألف ، بمعنى جاءوها . وقرأه بعض المكيين وعامة قراء الكوفة والبصرة : ( لآتوها ) بمد الألف ، بمعنى : لأعطوها ، لقوله : ( ثم سئلوا الفتنة ) . وقالوا : إذا كان سؤال كان إعطاء . والمد أعجب القراءتين إلي لما ذكرت ، وإن كانت الأخرى جائزة .