القول في تأويل قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ( 69 ) )
يقول - تعالى ذكره - لأصحاب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : يا أيها الذين [ ص: 332 ] آمنوا بالله ورسوله لا تؤذوا رسول الله بقول يكرهه منكم ، ولا بفعل لا يحبه منكم ، ولا تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبي الله فرموه بعيب كذبا وباطلا ( فبرأه الله مما قالوا ) فيه من الكذب والزور بما أظهر من البرهان على كذبهم ( وكان عند الله وجيها ) يقول : وكان موسى عند الله مشفعا فيما يسأل ، ذا وجه ومنزلة عنده بطاعته إياه .
ثم اختلف أهل التأويل في الأذى الذي أوذي به موسى الذي ذكره الله في هذا الموضع فقال بعضهم : رموه بأنه آدر ، وروى بذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبرا .
ذكر الرواية التي رويت عنه ، ومن قال ذلك :
حدثني أبو السائب قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، وعبد الله بن الحارث ، عن ابن عباس في قوله ( لا تكونوا كالذين آذوا موسى ) قال : قال له قومه : إنك آدر قال : فخرج ذات يوم يغتسل ، فوضع ثيابه على صخرة ، فخرجت الصخرة تشتد بثيابه ، وخرج يتبعها عريانا حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل قال : فرأوه ليس بآدر قال : فذلك قوله ( فبرأه الله مما قالوا ) .
حدثني يحيى بن داود الواسطي قال : ثنا عن إسحاق بن يوسف الأزرق ، سفيان ، عن جابر ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة ، لا تكونوا كالذين آذوا موسى ) قال : قالوا هو آدر قال : فذهب موسى يغتسل ، فوضع ثيابه على حجر ، فمر الحجر بثيابه ، فتبع موسى قفاه ، فقال : ثيابي حجر . فمر بمجلس بني إسرائيل ، فرأوه ; فبرأه الله مما قالوا ( وكان عند الله وجيها ) . عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى ) إلى ( وجيها ) قال : كان أذاهم موسى أنهم قالوا : والله ما يمنع موسى أن يضع ثيابه [ ص: 333 ] عندنا إلا أنه آدر ، فآذى ذلك موسى ، فبينما هو ذات يوم يغتسل وثوبه على صخرة ، فلما قضى موسى غسله ، وذهب إلى ثوبه ليأخذه انطلقت الصخرة تسعى بثوبه ، وانطلق يسعى في أثرها حتى مرت على مجلس بني إسرائيل ، وهو يطلبها ، فلما رأوا موسى - صلى الله عليه وسلم - متجردا لا ثوب عليه قالوا : والله ما نرى بموسى بأسا ، وإنه لبريء مما كنا نقول له ، فقال الله ( فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ) .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى ) الآية قال : كان موسى رجلا شديد المحافظة على فرجه وثيابه قال : فكانوا يقولون : ما يحمله على ذلك إلا عيب في فرجه يكره أن يرى ، فقام يوما يغتسل في الصحراء فوضع ثيابه على صخرة ، فاشتدت بثيابه قال : وجاء يطلبها عريانا حتى اطلع عليهم عريانا ، فرأوه بريئا مما قالوا ، وكان عند الله وجيها قال : والوجيه في كلام العرب : المحب المقبول .
وقال آخرون : بل وصفوه بأنه أبرص .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد قال : قال بنو إسرائيل : إن موسى آدر ، وقالت طائفة : هو أبرص من شدة تستره ، وكان يأتي كل يوم عينا ، فيغتسل ويضع ثيابه على صخرة عندها ، فعدت الصخرة بثيابه حتى انتهت إلى مجلس بني إسرائيل ، وجاء موسى يطلبها فلما رأوه عريانا ليس به شيء مما قالوا لبس ثيابه ، ثم أقبل على الصخرة يضربها بعصاه ، فأثرت العصا في الصخرة .
حدثنا بحر بن حبيب بن عربي قال : ثنا روح بن عبادة قال : ثنا عوف ، عن محمد ، عن في هذه الآية ( أبي هريرة لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا ) الآية [ ص: 334 ] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يكاد يرى من جلده شيء استحياء منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، وقالوا : ما تستر هذا التستر إلا من عيب في جلده ; إما برص ، وإما أدرة ، وإما آفة ، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا ، وإن موسى خلا يوما وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ من غسله ، أقبل على ثوبه ليأخذه ، وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصا وطلب الحجر ، وجعل يقول : ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملإ من بني إسرائيل ، فرأوه عريانا كأحسن الناس خلقا وبرأه الله مما قالوا ، وإن الحجر قام فأخذ ثوبه ولبسه فطفق بالحجر ضربا بذلك ، فوالله إن في الحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا " . إن
حدثنا ابن بشار قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " موسى رجلا حييا ستيرا " ثم ذكر نحوا منه . كان
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : حدث الحسن ، عن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبي هريرة موسى حييا ; فكان يتستر إذا اغتسل ، فطعنوا فيه بعورة قال : فبينا نبي الله يغتسل يوما إذ وضع ثيابه على صخرة ، فانطلقت الصخرة واتبعها نبي الله ضربا بعصاه : ثوبي يا حجر ، ثوبي يا حجر ، حتى انتهت إلى ملإ من بني إسرائيل ، أو توسطهم ، فقامت فأخذ نبي الله ثيابه ، فنظروا إلى أحسن الناس خلقا وأعدله مروءة فقال الملأ : قاتل الله أفاكي بني إسرائيل ، فكانت براءته التي برأه الله منها " . إن بني إسرائيل كانوا يغتسلون وهم عراة وكان نبي الله
وقال آخرون : بل كان أذاهم إياه ادعاءهم عليه قتل هارون أخيه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني قال : ثنا علي بن مسلم الطوسي عباد قال : ثنا سفيان بن حبيب ، عن [ ص: 335 ] الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن رضي الله عنه في قول الله ( علي بن أبي طالب لا تكونوا كالذين آذوا موسى . . . ) الآية قال : صعد موسى وهارون الجبل ، فمات هارون ، فقالت بنو إسرائيل : أنت قتلته ، وكان أشد حبا لنا منك وألين لنا منك ، فآذوه بذلك ، فأمر الله الملائكة فحملته حتى مروا به على بني إسرائيل ، وتكلمت الملائكة بموته ، حتى عرف بنو إسرائيل أنه قد مات ، فبرأه الله من ذلك فانطلقوا به فدفنوه ، فلم يطلع على قبره أحد من خلق الله إلا الرخم ; فجعله الله أصم أبكم .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن بني إسرائيل آذوا نبي الله ببعض ما كان يكره أن يؤذى به ، فبرأه الله مما آذوه به . وجائز أن يكون ذلك كان قيلهم : إنه أبرص . وجائز أن يكون كان ادعاءهم عليه قتل أخيه هارون . وجائز أن يكون كل ذلك ; لأنه قد ذكر كل ذلك أنهم قد آذوه به ، ولا قول في ذلك أولى بالحق مما قال الله إنهم آذوا موسى ، فبرأه الله مما قالوا .