يقول - تعالى ذكره - : فلما أمضينا قضاءنا على سليمان بالموت فمات ( ما دلهم على موته ) يقول : لم يدل الجن على موت سليمان ( إلا دابة الأرض ) وهي الأرضة وقعت في عصاه التي كان متكئا عليها فأكلتها ، فذلك قول الله عز وجل ( تأكل منسأته ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
[ ص: 370 ] ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن المثنى ، وعلي قالا : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( إلا دابة الأرض تأكل منسأته ) يقول : الأرضة تأكل عصاه .
حدثنا محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( تأكل منسأته ) قال : عصاه .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثني أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( إلا دابة الأرض ) قال : الأرضة ( تأكل منسأته ) قال : عصاه .
حدثني محمد بن عمارة قال : ثنا عبد الله بن موسى قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ( تأكل منسأته ) قال : عصاه .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا ابن عثمة قال : ثنا عن سعيد بن بشير ، قتادة في قوله ( تأكل منسأته ) أكلت عصاه حتى خر .
حدثنا موسى بن هارون قال : ثنا عمرو قال : ثنا أسباط ، عن السدي : المنسأة : العصا بلسان الحبشة .
حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : المنسأة العصا .
فقرأ ذلك عامة قراء واختلفت القراء في قراءة قوله ( منسأته ) أهل المدينة وبعض أهل البصرة ( منساته ) غير مهموزة ، وزعم من اعتل لقارئ ذلك كذلك من أهل البصرة أن المنساة : العصا ، وأن أصلها من نسأت بها الغنم قال : وهي من الهمز الذي تركته العرب ، كما تركوا همز النبي والبرية والخابية ، وأنشد لترك الهمز في ذلك بيتا لبعض الشعراء :
[ ص: 371 ] إذا دببت على المنساة من هرم فقد تباعد عنك اللهو والغزل
وذكر الفراء ، عن أبي جعفر الرواسي أنه سأل عنها أبا عمرو فقال : ( منساته ) بغير همز .
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة ( منسأته ) بالهمز ، وكأنهم وجهوا ذلك إلى أنها مفعلة من نسأت البعير : إذا زجرته ليزداد سيره ، كما يقال نسأت اللبن : إذا صببت عليه الماء وهو النسيء ، وكما يقال : نسأ الله في أجلك أي أدام الله في أيام حياتك .
قال أبو جعفر : وهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وإن كنت أختار الهمز فيها لأنه الأصل .
وقوله ( فلما خر تبينت الجن ) يقول عز وجل : فلما خر سليمان ساقطا بانكسار منسأته تبينت الجن ( أن لو كانوا يعلمون الغيب ) الذي يدعون علمه ( ما لبثوا في العذاب المهين ) المذل حولا كاملا بعد موت سليمان ، وهم يحسبون أن سليمان حي .
[ ص: 372 ] وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن منصور قال : ثنا موسى بن مسعود أبو حذيفة قال : ثنا عن إبراهيم بن طهمان ، عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " سليمان نبي الله إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها : ما اسمك؟ فتقول : كذا ، فيقول : لأي شيء أنت؟ فإن كانت تغرس غرست ، وإن كان لدواء كتبت ، فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه ، فقال لها : ما اسمك؟ قالت : الخروب قال : لأي شيء أنت؟ قالت : لخراب هذا البيت ، فقال كان سليمان : اللهم عم على الجن موتي ; حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، فنحتها عصا فتوكأ عليها حولا ميتا ، والجن تعمل ، فأكلتها الأرضة ، فسقط ، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين " . قال : وكان ابن عباس يقرؤها كذلك قال : فشكرت الجن للأرضة فكانت تأتيها بالماء .
حدثنا موسى بن هارون قال : ثنا عمرو قال : ثنا أسباط ، عن في خبر ذكره عن السدي أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن عن مرة الهمداني ، ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كان سليمان يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر ، يدخل طعامه وشرابه ، فدخله في المرة التي مات فيها ، وذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا تنبت فيه شجرة ، فيسألها : ما اسمك؟ فتقول الشجرة : اسمي كذا وكذا ، فيقول لها : لأي شيء نبت ، فتقول : نبت لكذا وكذا . فيأمر بها فتقطع ; فإن كانت نبتت لغرس غرسها ، وإن كانت [ ص: 373 ] نبتت لدواء قالت : نبت دواء لكذا وكذا ، فيجعلها كذلك ، حتى نبتت شجرة يقال لها الخروبة ، فسألها ما اسمك؟ فقالت له : أنا الخروبة ، فقال : لأي شيء نبت ؟ قالت : لخراب هذا المسجد ، قال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ، فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم دخل المحراب ، فقام يصلي متكئا على عصاه ، فمات ولا تعلم به الشياطين في ذلك ، وهم يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم ، وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب ، وكان المحراب له كوى بين يديه وخلفه ، وكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول : ألست جلدا إن دخلت فخرجت من الجانب الآخر ، فدخل شيطان من أولئك فمر ، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق ، فمر ولم يسمع صوت سليمان عليه السلام ، ثم رجع فلم يسمع ، ثم رجع فوقع في البيت فلم يحترق ، ونظر إلى سليمان قد سقط فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته ، وهي العصا بلسان الحبشة قد أكلتها الأرضة ، ولم يعلموا منذ كم مات ، فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت منها يوما وليلة ، ثم حسبوا على ذلك النحو ، فوجدوه قد مات منذ سنة " . وهي في قراءة ابن مسعود : فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا كاملا فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم ، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له ، وذلك قول الله ( ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) يقول : تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم ، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة : لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام ، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب ، ولكنا سننقل إليك الماء والطين ، فالذي يكون في جوف الخشب فهو ما تأتيها به الشياطين شكرا لها .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : كانت الجن تخبر الإنس أنهم كانوا يعلمون من الغيب أشياء ، وأنهم يعلمون ما في غد ، [ ص: 374 ] فابتلوا بموت سليمان ، فمات فلبث سنة على عصاه وهم لا يشعرون بموته ، وهم مسخرون تلك السنة يعملون دائبين ( فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) ولقد لبثوا يدأبون ، ويعملون له حولا .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته ) قال : قال سليمان لملك الموت : يا ملك الموت ، إذا أمرت بي فأعلمني قال : فأتاه فقال : يا سليمان قد أمرت بك ، قد بقيت لك سويعة فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ، ليس له باب فقام يصلي واتكأ على عصاه قال : فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكئ على عصاه ، ولم يصنع ذلك فرارا من ملك الموت قال : والجن تعمل بين يديه وينظرون إليه يحسبون أنه حي قال : فبعث الله دابة الأرض قال : دابة تأكل العيدان يقال لها القادح ، فدخلت فيها فأكلتها ، حتى إذا أكلت جوف العصا ، ضعفت وثقل عليها فخر ميتا قال : فلما رأت الجن ذلك انفضوا وذهبوا قال : فذلك قوله ( ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته ) قال : والمنسأة : العصا .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير ، عن عطاء قال : كان سليمان بن داود يصلي ، فمات وهو قائم يصلي والجن يعملون لا يعلمون بموته ، حتى أكلت الأرضة عصاه فخر وأن في قوله ( أن لو كانوا ) في موضع رفع ب " تبين " ، لأن معنى الكلام : فلما خر تبين وانكشف ، أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين .
وأما على التأويل الذي تأوله ابن عباس من أن معناه : تبينت الإنس الجن ، فإنه ينبغي أن يكون في موضع نصب بتكريرها على الجن ، وكذلك يجب على هذه القراءة أن تكون الجن منصوبة ، غير أني لا أعلم أحدا من قراء الأمصار يقرأ ذلك بنصب الجن ، ولو نصب كان في قوله ( تبينت ) ضمير من ذكر الإنس .