القول في وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) تأويل قوله تعالى (
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" ، واذكروا إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت .
و"القواعد" جمع "قاعدة" ، يقال للواحدة من "قواعد البيت" "قاعدة" ، وللواحدة من "قواعد النساء" وعجائزهن "قاعد" ، فتلغى هاء التأنيث ، لأنها "فاعل" من قول القائل : "قعدت عن الحيض" ، ولا حظ فيه للذكورة ، كما يقال : "امرأة طاهر وطامث" ، لأنه لا حظ في ذلك للذكور . ولو عنى به "القعود" الذي هو خلاف "القيام" ، لقيل : "قاعدة" ، ولم يجز حينئذ إسقاط هاء التأنيث . و"قواعد البيت" : إساسه .
ثم اختلف أهل التأويل في " القواعد" التي رفعها إبراهيم وإسماعيل من البيت . أهما أحدثا ذلك ، أم هي قواعد كانت له قبلهما ؟
فقال قوم : هي قواعد بيت كان بناه آدم أبو البشر بأمر الله إياه بذلك ، ثم درس مكانه وتعفى أثره بعده ، حتى بوأه الله إبراهيم عليه السلام ، فبناه .
ذكر من قال ذلك :
2037 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ، عن ابن جريج عطاء قال : قال آدم : يا رب ، إني لا أسمع أصوات الملائكة! قال : بخطيئتك ، ولكن اهبط إلى الأرض ، وابن لي بيتا ، ثم احفف به كما رأيت [ ص: 58 ] الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء . فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل : من" حراء " و" طورزيتا " ، و" طورسينا " ، و" جبل لبنان " ، و" الجودي " ، وكان ربضه من حراء . فكان هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم بعد .
2038 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" قال : القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك .
وقال آخرون : بل هي قواعد بيت كان الله أهبطه لآدم من السماء إلى الأرض ، يطوف به كما كان يطوف بعرشه في السماء ، ثم رفعه إلى السماء أيام الطوفان ، فرفع إبراهيم قواعد ذلك البيت .
ذكر من قال ذلك :
2039 - حدثني قال : حدثنا محمد بن بشار عبد الوهاب قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، عن عبد الله بن عمرو قال : لما أهبط الله آدم من الجنة قال : إني مهبط معك - أو منزل - معك بيتا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي ، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي . فلما كان زمن الطوفان رفع ، فكانت الأنبياء يحجونه ولا يعلمون مكانه ، حتى بوأه الله إبراهيم ، وأعلمه مكانه ، فبناه من خمسة أجبل : من" حراء " و" ثبير " و" لبنان " و" جبل الطور " و" جبل الخمر " . [ ص: 59 ]
2040 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا إسماعيل ابن علية قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : لما أهبط آدم ، ثم ذكر نحوه .
2041 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ، عن هشام بن حسان سوار [ ختن عطاء ] ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : لما أهبط الله آدم من الجنة ، كان رجلاه في الأرض ورأسه في السماء ، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم ، يأنس إليهم ، فهابته الملائكة ، حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها ، فخفضه إلى الأرض . فلما فقد ما كان يسمع منهم ، استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته ، فوجه إلى مكة ، فكان موضع قدمه قرية وخطوه مفازة ، حتى انتهى إلى مكة . وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة ، فكانت على موضع البيت الآن ، فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان ، فرفعت تلك الياقوتة ، حتى بعث الله إبراهيم فبناه . فذلك قول الله : "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" .
2042 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : وضع الله البيت مع آدم ، حين أهبط الله آدم إلى الأرض ، وكان مهبطه بأرض الهند ، وكان رأسه في السماء ، ورجلاه في الأرض ، فكانت الملائكة تهابه ، فنقص إلى ستين ذراعا : فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم ، فشكا ذلك إلى الله تعالى ، فقال الله : يا آدم ، إني قد أهبطت إليك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي ، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي . [ ص: 60 ] فانطلق إليه آدم فخرج ، ومد له في خطوه ، فكان بين كل خطوتين مفازة ، فلم تزل تلك المفاوز بعد ذلك . فأتى آدم البيت وطاف به ومن بعده من الأنبياء .
2043 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أبان : أن البيت أهبط ياقوتة واحدة - أو درة واحدة - حتى إذا أغرق الله قوم نوح رفعه ، وبقي أساسه ، فبوأه الله لإبراهيم ، فبناه بعد ذلك .
وقال آخرون : بل كان موضع البيت ربوة حمراء كهيئة القبة . وذلك أن الله لما أراد خلق الأرض علا الماء زبدة حمراء أو بيضاء ، وذلك في موضع البيت الحرام . ثم دحا الأرض من تحتها ، فلم يزل ذلك كذلك حتى بوأه الله إبراهيم ، فبناه على أساسه . وقالوا : أساسه على أركان أربعة في الأرض السابعة .
ذكر من قال ذلك :
2044 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال جرير بن حازم ، حدثني حميد بن قيس ، عن مجاهد قال : كان موضع البيت على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض ، مثل الزبدة البيضاء ، ومن تحته دحيت الأرض .
2045 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا قال : قال ابن جريج عطاء : بعث الله رياحا فصفقت الماء ، فأبرزت في موضع البيت عن حشفة كأنها القبة ، فهذا البيت منها . فلذلك هي "أم القرى" . قال وعمرو بن دينار قال ابن جريج ، عطاء : ثم وتدها بالجبال كي لا تكفأ بميد ، فكان أول جبل "أبو قبيس" . [ ص: 61 ]
2046 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن حفص بن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : وضع البيت على أركان الماء ، على أربعة أركان ، قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ، ثم دحيت الأرض من تحت البيت .
2047 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب ، عن هارون بن عنترة ، عن عطاء بن أبي رباح قال : وجدوا بمكة حجرا مكتوبا عليه : "إني أنا الله ذو بكة ، بنيته يوم صنعت الشمس والقمر ، وحففته بسبعة أملاك حنفاء" .
2048 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد وغيره من أهل العلم : أن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام ، وخرج معه بإسماعيل وأمه هاجر ، وإسماعيل طفل صغير يرضع . وحملوا - فيما حدثني - على البراق ومعه جبريل يدله على [ ص: 62 ] موضع البيت ومعالم الحرم . فخرج وخرج معه جبريل ، فقال : كان لا يمر بقرية إلا قال : أبهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل : امضه! حتى قدم به مكة ، وهي إذ ذاك عضاه سلم وسمر ، وبها أناس يقال لهم "العماليق" خارج مكة وما حولها ، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة ، فقال إبراهيم لجبريل : أهاهنا أمرت أن أضعهما ؟ قال : نعم . فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه ، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا ، فقال : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ) إلى قوله : ( لعلهم يشكرون ) . [ سورة إبراهيم : 37 ]
قال ابن حميد : قال : سلمة قال : ابن إسحاق : ويزعمون - والله أعلم - أن ملكا من الملائكة أتى هاجر أم إسماعيل - حين أنزلهما إبراهيم مكة ، قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت - فأشار لها إلى البيت ، وهو ربوة حمراء مدرة ، فقال لها : هذا أول بيت وضع في الأرض ، وهو بيت الله العتيق ، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل هما يرفعانه للناس .
2049 - حدثني الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا قال : أخبرني هشام بن حسان حميد ، عن مجاهد قال : خلق الله موضع هذا [ ص: 63 ] البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة ، وأركانه في الأرض السابعة .
2050 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة قال : أخبرني بشر بن عاصم ، عن ابن المسيب قال : حدثنا كعب : إن البيت كان غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين سنة ، ومنه دحيت الأرض . قال [ سعيد ] : وحدثنا عن : أن علي بن أبي طالب إبراهيم أقبل من أرمينية معه السكينة ، تدله على تبوئ البيت ، كما تتبوأ العنكبوت بيتها . قال : فرفعت عن أحجار تطيقه - أو لا تطيقه - ثلاثون رجلا قال : قلت : يا أبا محمد فإن الله يقول : " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت " قال : كان ذاك بعد . [ ص: 64 ]
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن إبراهيم خليله أنه وابنه إسماعيل ، رفعا القواعد من البيت الحرام . وجائز أن يكون ذلك قواعد بيت كان أهبطه مع آدم ، فجعله مكان البيت الحرام الذي بمكة . وجائز أن يكون ذلك كان القبة التي ذكرها عطاء ، مما أنشأه الله من زبد الماء . وجائز أن يكون كان ياقوتة أو درة أهبطا من السماء . وجائز أن يكون كان آدم بناه ثم انهدم ، حتى رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل . ولا علم عندنا بأي ذلك كان من أي ، لأن حقيقة ذلك لا تدرك إلا بخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ، بالنقل المستفيض . ولا خبر بذلك تقوم به الحجة فيجب التسليم لها ، ولا هو - إذ لم يكن به خبر ، على ما وصفنا - مما يدل عليه بالاستدلال والمقاييس ، فيمثل بغيره ، ويستنبط علمه من جهة الاجتهاد ، فلا قول في ذلك هو أولى بالصواب مما قلنا . والله تعالى أعلم .