يقول - تعالى ذكره - : وقال هؤلاء المشركون حين عاينوا عذاب الله : آمنا [ ص: 425 ] به ، يعني : آمنا بالله وبكتابه ورسوله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( وقالوا آمنا به ) قالوا : آمنا بالله .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وقالوا آمنا به ) عند ذلك ، يعني : حين عاينوا عذاب الله .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( وقالوا آمنا به ) بعد القتل ، وقوله ( وأنى لهم التناوش ) يقول : ومن أي وجه لهم التناوش .
واختلفت قراء الأمصار في ذلك ; فقرأته عامة قراء المدينة ( التناوش ) بغير همز ، بمعنى التناول ، وقرأته عامة قراء الكوفة والبصرة : ( التناؤش ) بالهمز ، بمعنى التنؤش ، وهو الإبطاء ، يقال منه : تناءشت الشيء : أخذته من بعيد ، ونشته : أخذته من قريب ، ومن التنؤش قول الشاعر :
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني وقد حدثت بعد الأمور أمور
[ ص: 426 ] ومن النوش قول الراجز :
فهي تنوش الحوض نوشا من علا نوشا به تقطع أجواز الفلا
ويقال للقوم في الحرب ، إذا دنا بعضهم إلى الرماح ولم يتلاقوا : قد تناوش القوم .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان في قراء الأمصار ، متقاربتا المعنى ، وذلك أن معنى ذلك : وقالوا آمنا بالله ، في حين لا ينفعهم قيل ذلك ، فقال الله ( وأنى لهم التناوش ) أي : وأين لهم التوبة والرجعة ، أي : قد بعدت عنهم ، فصاروا منها كموضع بعيد أن يتناولوها ، وإنما [ ص: 427 ] وصفت ذلك الموضع بالبعيد ، لأنهم قالوا : ذلك في القيامة فقال الله : أنى لهم بالتوبة المقبولة ، والتوبة المقبولة إنما كانت في الدنيا ، وقد ذهبت الدنيا فصارت بعيدا من الآخرة ، فبأي القراءتين اللتين ذكرت قرأ القارئ فمصيب الصواب في ذلك .
وقد يجوز أن يكون الذين قرءوا ذلك بالهمز همزوا وهم يريدون معنى من لم يهمز ، ولكنهم همزوه لانضمام الواو فقلبوها ، كما قيل : ( وإذا الرسل أقتت ) فجعلت الواو من وقتت إذ كانت مضمومة همزوه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب قال : ثنا ابن عطية قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي قال : قلت : أرأيت قول الله ( وأنى لهم التناوش ) قال : يسألون الرد وليس بحين رد . لابن عباس
حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس نحوه .
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( وأنى لهم التناوش ) يقول : فكيف لهم بالرد .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وأنى لهم التناوش ) قال : الرد .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ( وأنى لهم التناوش ) قال : التناوب ( من مكان بعيد ) .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ) قال : هؤلاء قتلى أهل [ ص: 428 ] بدر من قتل منهم ، وقرأ ( ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقالوا آمنا به ) الآية قال : التناوش : التناول ، وأنى لهم تناول التوبة من مكان بعيد وقد تركوها في الدنيا قال : وهذا بعد الموت في الآخرة .
قال : وقال ابن زيد في قوله ( وقالوا آمنا به ) بعد القتل ( وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ) وقرأ ( ولا الذين يموتون وهم كفار ) قال : ليس لهم توبة ، وقال : عرض الله عليهم أن يتوبوا مرة واحدة ، فيقبلها الله منهم ، فأبوا ، أو يعرضون التوبة بعد الموت قال : فهم يعرضونها في الآخرة خمس عرضات ، فيأبى الله أن يقبلها منهم قال : ليست له توبة ( والتائب عند الموت ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ) الآية ، وقرأ ( ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ) .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال : ثنا مروان ، عن جويبر ، عن الضحاك فى قول ( وأنى لهم التناوش ) قال : وأنى لهم الرجعة .
وقوله ( من مكان بعيد ) يقول : من آخرتهم إلى الدنيا .
كما حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( من مكان بعيد ) من الآخرة إلى الدنيا .