قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك . فقرأه بعضهم : "وأرنا مناسكنا" بمعنى رؤية العين ، أي أظهرها لأعيننا حتى نراها . وذلك قراءة عامة أهل الحجاز والكوفة . [ ص: 76 ]
وكان بعض من يوجه تأويل ذلك إلى هذا التأويل ، يسكن الراء من "أرنا" ، غير أنه يشمها كسرة .
واختلف قائل هذه المقالة وقرأة هذه القراءة في تأويل قوله : "مناسكنا"
فقال بعضهم : هي مناسك الحج ومعالمه .
ذكر من قال ذلك :
2063 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "وأرنا مناسكنا" فأراهما الله مناسكهما : الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، والإفاضة من عرفات ، والإفاضة من جمع ، ورمي الجمار ، حتى أكمل الله الدين - أو دينه .
2064 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "وأرنا مناسكنا" قال : أرنا نسكنا وحجنا .
2065 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن قال : لما فرغ السدي إبراهيم وإسماعيل من بنيان البيت ، أمره الله أن ينادي فقال : ( وأذن في الناس بالحج ) [ سورة الحج : 27 ] ، فنادى بين أخشبي مكة : يا أيها الناس! إن الله يأمركم أن تحجوا بيته . قال : فوقرت في قلب كل مؤمن ، فأجابه كل من سمعه من جبل أو شجر أو دابة : "لبيك لبيك" . فأجابوه بالتلبية : "لبيك اللهم لبيك" ، وأتاه من أتاه . فأمره الله أن يخرج إلى عرفات ، ونعتها [ له ] ، فخرج . فلما بلغ الشجرة عند العقبة ، استقبله الشيطان ، فرماه بسبع حصيات [ ص: 77 ] يكبر مع كل حصاة ، فطار فوقع على الجمرة الثانية أيضا ، فصده ، فرماه وكبر ، فطار فوقع على الجمرة الثالثة ، فرماه وكبر . فلما رأى أنه لا يطيقه ، ولم يدر إبراهيم أين يذهب ، انطلق حتى أتى "ذا المجاز" ، فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز ، فلذلك سمي : "ذا المجاز" . ثم انطلق حتى وقع بعرفات ، فلما نظر إليها عرف النعت . قال : قد عرفت! فسميت : "عرفات" . فوقف إبراهيم بعرفات ، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع ، فسميت "المزدلفة" ، فوقف بجمع . ثم أقبل حتى أتى الشيطان حيث لقيه أول مرة فرماه بسبع حصيات سبع مرات ، ثم أقام بمنى حتى فرغ من الحج وأمره . وذلك قوله : "وأرنا مناسكنا" .
وقال آخرون - ممن قرأ هذه القراءة - "المناسك" : المذابح . فكان تأويل هذه الآية ، على قول من قال ذلك : وأرنا كيف ننسك لك يا ربنا نسائكنا ، فنذبحها لك .
ذكر من قال ذلك :
2066 - حدثنا قال : حدثنا محمد بن بشار عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن ، عن ابن جريج عطاء : "وأرنا مناسكنا" قال : ذبحنا . [ ص: 78 ]
2067 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن ، عن ابن جريج عطاء قال : مذابحنا .
2067 م - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
2067 م - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
2067 م - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن قال : قال ابن جريج عطاء : سمعت يقول : "وأرنا مناسكنا" قال : أرنا مذابحنا . عبيد بن عمير
وقال آخرون : "وأرنا مناسكنا" بتسكين "الراء" ، وزعموا أن معنى ذلك : وعلمنا ، ودلنا عليها - لا أن معناه : أرناها بالأبصار . وزعموا أن ذلك نظير قول حطائط بن يعفر ، أخي الأسود بن يعفر :
أريني جوادا مات هزلا لأنني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
يعني بقوله : "أريني" ، دليني عليه وعرفيني مكانه ، ولم يعن به رؤية العين . [ ص: 79 ]
وهذه قراءة رويت عن بعض المتقدمين .
ذكر من قال ذلك :
2068 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن قال : قال ابن جريج عطاء : "أرنا مناسكنا" ، أخرجها لنا ، علمناها .
2069 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا قال : قال ابن جريج ابن المسيب : قال : لما فرغ علي بن أبي طالب إبراهيم من بناء البيت ، قال : "فعلت أي رب ، فأرنا مناسكنا" - أبرزها لنا ، علمناها - فبعث الله جبريل ، فحج به .
قال أبو جعفر : والقول واحد ، فمن كسر "الراء" جعل علامة الجزم سقوط "الياء" التي في قول القائل : "أرينه" "أرنه" ، وأقر الراء مكسورة كما كانت قبل الجزم . ومن سكن "الراء" من "أرنا" ، توهم أن إعراب الحرف في "الراء" ، فسكنها في الجزم ، كما فعلوا ذلك في "لم يكن" و"لم يك" .
وسواء كان ذلك من رؤية العين أو من رؤية القلب . ولا معنى لفرق من فرق بين رؤية العين في ذلك ورؤية القلب .
وأما"المناسك" فإنها جمع "منسك" ، وهو الموضع الذي ينسك لله فيه ، ويتقرب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح : إما بذبح ذبيحة له ، وإما بصلاة أو طواف أو سعي ، وغير ذلك من الأعمال الصالحة . ولذلك قيل لمشاعر الحج [ ص: 80 ] "مناسكه" ، لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس ، ويترددون إليها .
وأصل "المنسك" في كلام العرب : الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه ، يقال : "لفلان منسك" ، وذلك إذا كان له موضع يعتاده لخير أو شر . ولذلك سميت "المناسك" "مناسك" ، لأنها تعتاد ، ويتردد إليها بالحج والعمرة ، وبالأعمال التي يتقرب بها إلى الله .
وقد قيل : إن معنى "النسك" : عبادة الله . وأن"الناسك" إنما سمي"ناسكا" بعبادة ربه .
فتأول قائلو هذه المقالة قوله : "وأرنا مناسكنا" ، وعلمنا عبادتك ، كيف نعبدك ؟ وأين نعبدك ؟ وما يرضيك عنا فنفعله ؟
وهذا القول ، وإن كان مذهبا يحتمله الكلام ، فإن الغالب على معنى "المناسك" ما وصفنا قبل ، من أنها "مناسك الحج" التي ذكرنا معناها .
وخرج هذا الكلام من قول إبراهيم وإسماعيل على وجه المسألة منهما ربهما لأنفسهما . وإنما ذلك منهما مسألة ربهما لأنفسهما وذريتهما المسلمين . فلما ضما ذريتهما المسلمين إلى أنفسهما ، صارا كالمخبرين عن أنفسهما بذلك . وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لتقدم الدعاء منهما للمسلمين من ذريتهما قبل في أول الآية ، وتأخره بعد في الآية الأخرى . فأما الذي في أول الآية فقولهما : " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " ، ثم جمعا أنفسهما والأمة المسلمة من ذريتهما ، في مسألتهما ربهما أن يريهم مناسكهم فقالا "وأرنا مناسكنا" . وأما التي في الآية التي بعدها : "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" ، فجعلا المسألة لذريتهما خاصة . [ ص: 81 ]
وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود : "وأرهم مناسكهم" ، يعني بذلك وأر ذريتنا المسلمة مناسكهم .