القول في تأويل قوله تعالى : ( وإن إلياس لمن المرسلين ( 123 ) إذ قال لقومه ألا تتقون ( 124 ) أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين ( 125 ) الله ربكم ورب آبائكم الأولين ( 126 ) فكذبوه فإنهم لمحضرون ( 127 ) إلا عباد الله المخلصين ( 128 ) وتركنا عليه في الآخرين ( 129 ) )
يقول - تعالى ذكره - : وإن إلياس ، وهو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران فيما حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق .
وقيل : إنه إدريس . حدثنا بذلك بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان يقال : إلياس هو إدريس . وقد ذكرنا ذلك فيما مضى قبل .
وقوله ( لمن المرسلين ) يقول - جل ثناؤه - : لمرسل من المرسلين ( إذ قال لقومه ألا تتقون ) .
يقول حين قال لقومه في بني إسرائيل : ألا تتقون الله أيها [ ص: 96 ] القوم ، فتخافونه ، وتحذرون عقوبته على عبادتكم ربا غير الله ، وإلها سواه ( وتذرون أحسن الخالقين ) يقول : وتدعون عبادة أحسن من قيل له خالق .
وقد اختلف في معنى بعل ، فقال بعضهم : معناه : أتدعون ربا ؟ وقالوا : هي لغة لأهل اليمن معروفة فيهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا قال : ثنا ابن المثنى حرمي بن عمارة قال : ثنا شعبة قال : أخبرني عمارة ، عن عكرمة ، في قوله ( أتدعون بعلا ) قال : إلها .
حدثنا عمران بن موسى قال : ثنا عبد الوارث قال : ثنا عمارة ، عن عكرمة ، في قوله ( أتدعون بعلا ) يقول : أتدعون ربا ، وهي لغة أهل اليمن ، تقول : من بعل هذا الثور ؟ : أي من ربه ؟
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو ، قالا ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله ( أتدعون بعلا ) قال : ربا .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( أتدعون بعلا ) قال : هذه لغة باليمانية : أتدعون ربا دون الله .
حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن قوله ( السدي أتدعون بعلا ) قال : ربا .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، عن عبد الله بن أبي يزيد قال : كنت عند ابن عباس فسألوه عن هذه الآية : ( أتدعون بعلا ) قال : فسكت ابن عباس ، فقال رجل : أنا بعلها ، فقال ابن عباس : كفاني هذا الجواب .
وقال آخرون : هو صنم كان لهم يقال له بعل ، وبه سميت بعلبك .
[ ص: 97 ] ذكر من قال ذلك :
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( أتدعون بعلا ) يعني : صنما كان لهم يسمى بعلا .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين ) ؟ قال : بعل : صنم كانوا يعبدون ، كانوا ببعلبك ، وهم وراء دمشق ، وكان بها البعل الذي كانوا يعبدون .
وقال آخرون : كان بعل : امرأة كانوا يعبدونها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : سمعت بعض أهل العلم يقول : ما كان بعل إلا امرأة يعبدونها من دون الله .
وللبعل في كلام العرب أوجه . يقولون لرب الشيء هو بعله ، يقال : هذا بعل هذه الدار ، يعني ربها ، ويقولون لزوج المرأة بعلها ، ويقولون لما كان من الغروس والزروع مستغنيا بماء السماء ، ولم يكن سقيا بل هو بعل ، وهو العذي . وذكر أن الله بعث إلى بني إسرائيل إلياس بعد مهلك حزقيل بن يوزا .
وكان من قصته وقصة قومه فيما بلغنا ، ما حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن قال : إن الله قبض حزقيل ، وعظمت في وهب بن منبه بني إسرائيل الأحداث ، ونسوا ما كان من عهد الله إليهم ، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها دون الله ، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيا . وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة ، فكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل ، يقال له : أحاب ، كان اسم امرأته : أربل ، وكان يسمع منه ويصدقه ، وكان إلياس يقيم له أمره ، وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله يقال له بعل .
[ ص: 98 ] قال ابن إسحاق : وقد سمعت بعض أهل العلم يقول : ( ما كان بعل إلا امرأة يعبدونها من دون الله ، يقول الله لمحمد : ( وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين ) فجعل إلياس يدعوهم إلى الله ، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا إلا ما كان من ذلك الملك ، والملوك متفرقة بالشام ، كل ملك له ناحية منها يأكلها ، فقال ذلك الملك الذي كان إلياس معه يقوم له أمره ، ويراه على هدى من بين أصحابه - يوما : يا إلياس ، والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلا والله ما أرى فلانا وفلانا ، يعدد ملوكا من ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان من دون الله - إلا على مثل ما نحن عليه ، يأكلون ويشربون وينعمون مملكين ، ما ينقص دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل ، وما نرى لنا عليهم من فضل ، فيزعمون - والله أعلم - أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده ، ثم رفضه وخرج عنه ، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه : عبد الأوثان ، وصنع ما يصنعون ، فقال إلياس : اللهم إن بني إسرائيل قد أبوا إلا أن يكفروا بك والعبادة لغيرك ، فغير ما بهم من نعمتك ) أو كما قال .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة قال : ثنا محمد بن إسحاق قال : فذكر لي أنه أوحي إليه : إنا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك وإليك حتى تكون أنت الذي تأذن في ذلك ، فقال إلياس : اللهم فأمسك عليهم المطر . فحبس عنهم ثلاث سنين ، حتى هلكت الماشية والهوام والدواب والشجر ، وجهد الناس جهدا شديدا . وكان إلياس فيما يذكرون حين دعا بذلك على بني إسرائيل قد استخفى ، شفقا على نفسه منهم ، وكان حيثما كان وضع له رزق ، وكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في دار أو بيت ، قالوا : لقد دخل إلياس هذا المكان فطلبوه ، ولقي منهم أهل ذلك المنزل شرا . ثم إنه أوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب به ضر ، فآوته وأخفت أمره ، فدعا إلياس لابنها ، فعوفي من الضر الذي كان به ، واتبع اليسع غلاما شابا ، فيزعمون - والله أعلم - أن أوحى إلى إلياس : إنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص سوى [ ص: 99 ] بني إسرائيل من البهائم والدواب والطير والهوام والشجر ، بحبس المطر عن بني إسرائيل ، فيزعمون والله أعلم أن إلياس قال : أي رب دعني أنا الذي أدعو لهم وأكون أنا الذي آتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم ، لعلهم أن يرجعوا وينزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك ، قيل له : نعم ، فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال لهم : إنكم قد هلكتم جهدا ، وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر بخطاياكم ، وإنكم على باطل وغرور ، أو كما قال لهم ، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك ، وتعلموا أن الله عليكم ساخط فيما أنتم عليه ، وأن الذي أدعوكم إليه - الحق ، فاخرجوا بأصنامكم هذه التي تعبدون وتزعمون أنها خير مما أدعوكم إليه ، فإن استجابت لكم ، فذلك كما تقولون ، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل ، فنزعتم ، ودعوت الله ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء ، قالوا : أنصفت ، فخرجوا بأوثانهم ، وما يتقربون به إلى الله من إحداثهم الذي لا يرضى ، فدعوها فلم تستجب لهم ، ولم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء حتى عرفوا ما هم فيه من الضلالة والباطل ، ثم قالوا لإلياس : يا إلياس إنا قد هلكنا فادع الله لنا ، فدعا لهم إلياس بالفرج مما هم فيه ، وأن يسقوا ، فخرجت سحابة مثل الترس بإذن الله على ظهر البحر وهم ينظرون ، ثم ترامى إليه السحاب ، ثم أدحست ثم أرسل المطر ، فأغاثهم ، فحيت بلادهم ، وفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ، فلم ينزعوا ولم يرجعوا ، وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه ، فلما رأى ذلك إلياس من كفرهم ، دعا ربه أن يقبضه إليه ، فيريحه منهم ، فقيل له فيما يزعمون : انظر يوم كذا وكذا ، فاخرج فيه إلى بلد كذا وكذا ، فماذا جاءوك من شيء فاركبه ولا تهبه ، فخرج إلياس وخرج معه اليسع بن أخطوب ، حتى إذا كان في البلد الذي ذكر له في المكان الذي أمر به ، أقبل إليه فرس من نار حتى وقف بين يديه ، فوثب عليه ، فانطلق به ، فناداه اليسع : يا إلياس ، يا إلياس ما تأمرني ؟ فكان آخر عهدهم به ، فكساه الله الريش ، وألبسه النور ، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب ، وطار في الملائكة ، فكان إنسيا ملكيا أرضيا سماويا .
[ ص: 100 ] واختلفت القراء في قراءة قوله ( الله ربكم ورب آبائكم الأولين ) فقرأته عامة قراء مكة والمدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة : ( الله ربكم ورب آبائكم الأولين ) رفعا على الاستئناف ، وأن الخبر قد تناهى عند قوله ( أحسن الخالقين ) وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة : ( الله ربكم ورب آبائكم الأولين ) نصبا ، على الرد على قوله ( وتذرون أحسن الخالقين ) على أن ذلك كله كلام واحد .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، مع استفاضة القراءة بهما في القراء ، فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيب . وتأويل الكلام : ذلك معبودكم أيها الناس الذي يستحق عليكم العبادة : ربكم الذي خلقكم ، ورب آبائكم الماضين قبلكم ، لا الصنم الذي لا يخلق شيئا ، ولا يضر ولا ينفع .
وقوله ( فكذبوه فإنهم لمحضرون ) يقول : فكذب إلياس قومه ، فإنهم لمحضرون : يقول : فإنهم لمحضرون في عذاب الله فيشهدونه .
كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( فإنهم لمحضرون ) في عذاب الله . ( إلا عباد الله المخلصين ) يقول : فإنهم يحضرون في عذاب الله ، إلا عباد الله الذين أخلصهم من العذاب ( وتركنا عليه في الآخرين ) يقول : وأبقينا عليه الثناء الحسن في الآخرين من الأمم بعده .