يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : وهل أتاك يا محمد نبأ الخصم وقيل : إنه عني بالخصم في هذا الموضع ملكان ، وخرج في لفظ الواحد ، لأنه مصدر مثل الزور والسفر ، لا يثنى ولا يجمع ، ومنه قول لبيد :
وخصم يعدون الذحول كأنهم قروم غيارى كل أزهر مصعب
وقوله ( إذ تسوروا المحراب ) يقول : دخلوا عليه من غير باب المحراب ، والمحراب مقدم كل مجلس وبيت وأشرفه .
وقوله ( إذ دخلوا على داود ) فكرر إذ مرتين وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك : قد يكون معناهما كالواحد ، كقولك : ضربتك إذ دخلت علي إذ اجترأت ، فيكون الدخول هو الاجتراء ، ويكون أن تجعل إحداهما على مذهب لما ، فكأنه قال : إذ تسوروا المحراب لما دخلوا قال : وإن شئت جعلت لما في الأول ، فإذا كان لما أولا أو آخرا ، فهي بعد صاحبتها ، كما تقول : أعطيته لما سألني ، فالسؤال قبل الإعطاء في تقدمه وتأخره .
وقوله ( ففزع منهم ) يقول القائل : وما كان وجه فزعه منهما وهما خصمان ، فإن فزعه منهما كان لدخولهما عليه من غير الباب الذي كان المدخل [ ص: 175 ] عليه ، فراعه دخولهما كذلك عليه . وقيل : إن فزعه كان منهما ، لأنهما دخلا عليه ليلا في غير وقت نظره بين الناس ، قالوا : ( لا تخف ) يقول - تعالى ذكره - : قال له الخصم : لا تخف يا داود ، وذلك لما رأياه قد ارتاع من دخولهما عليه من غير الباب . وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ظهر من الكلام منه ، وهو مرافع خصمان ، وذلك نحن . وإنما جاز ترك إظهار ذلك مع حاجة الخصمين إلى المرافع ، لأن قوله ( خصمان ) فعل للمتكلم ، والعرب تضمر للمتكلم والمكلم والمخاطب ما يرفع أفعالهما ، ولا يكادون أن يفعلوا ذلك بغيرهما ، فيقولون للرجل يخاطبونه : أمنطلق يا فلان ويقول المتكلم لصاحبه : أحسن إليك وتجمل ، وإنما يفعلون ذلك كذلك في المتكلم والمكلم ، لأنهما حاضران يعرف السامع مراد المتكلم إذا حذف الاسم ، وأكثر ما يجيء ذلك في الاستفهام ، وإن كان جائزا في غير الاستفهام ، فيقال : أجالس راكب ؟ فمن ذلك قوله خصمان ، ومنه قول الشاعر :
وقولا إذا جاوزتما أرض عامر وجاوزتما الحيين نهدا وخشعما
نزيعان من جرم بن ربان إنهم أبوا أن يميروا في الهزاهز محجما
وقول الآخر :
تقول ابنة الكعبي يوم لقيتها أمنطلق في الجيش أم متثاقل
ألا يا لقوم قد أشطت عواذلي ويزعمن أن أودى بحقي باطلي
ومسموع من بعضهم : شططت علي في السوم . فأما في البعد فإن أكثر كلامهم : شطت الدار ، فهي تشط ، كما قال الشاعر :
تشط غدا دار جيراننا وللدار بعد غد أبعد
وقوله ( واهدنا إلى سواء الصراط ) يقول : وأرشدنا إلى قصد الطريق المستقيم .
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله ( ولا تشطط ) قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ولا تشطط ) : أي لا تمل .
حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن ( ولا تشطط ) يقول : لا تحف . السدي
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( ولا تشطط ) تخالف عن الحق ، وكالذي قلنا أيضا في قوله ( واهدنا إلى سواء الصراط ) قالوا .
[ ص: 177 ] ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( واهدنا إلى سواء الصراط ) إلى عدله وخيره .
حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن ( السدي واهدنا إلى سواء الصراط ) إلى عدل القضاء .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( واهدنا إلى سواء الصراط ) قال : إلى الحق الذي هو الحق : الطريق المستقيم ( ولا تشطط ) تذهب إلى غيرها .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن : ( وهب بن منبه واهدنا إلى سواء الصراط ) : أي احملنا على الحق ، ولا تخالف بنا إلى غيره .