يقول - تعالى ذكره - : قال داود للخصم المتظلم من صاحبه : لقد ظلمك صاحبك بسؤاله نعجتك إلى نعاجه ، وهذا مما حذفت منه الهاء فأضيف بسقوط الهاء منه إلى المفعول به ، ومثله قوله عز وجل : ( لا يسأم الإنسان من دعاء الخير ) والمعنى : من دعائه بالخير ، فلما ألقيت الهاء من الدعاء أضيف إلى الخير ، وألقي من الخير الباء ، وإنما كني [ ص: 180 ] بالنعجة هاهنا عن المرأة ، والعرب تفعل ذلك ، ومنه قول الأعشى :
قد كنت رائدها وشاة محاذر حذرا يقل بعينه إغفالها
يعني بالشاة : امرأة رجل يحذر الناس عليها ، وإنما يعني : لقد ظلمت بسؤال امرأتك الواحدة إلى التسع والتسعين من نسائه .
وقوله ( وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض ) يقول : وإن كثيرا من الشركاء ليتعدى بعضهم على بعض ( إلا الذين آمنوا ) بالله ( وعملوا الصالحات ) يقول : وعملوا بطاعة الله ، وانتهوا إلى أمره ونهيه ، ولم يتجاوزوه ( وقليل ما هم ) وفي " ما " التي في قوله ( وقليل ما هم ) وجهان : أحدهما أن تكون صلة بمعنى : وقليل هم ، فيكون إثباتها وإخراجها من الكلام لا يفسد معنى الكلام : والآخر أن تكون اسما ، و " هم " صلة لها ، بمعنى : وقليل ما تجدهم ، كما يقال : قد كنت أحسبك أعقل مما أنت ، فتكون أنت صلة لما ، والمعنى : كنت أحسب عقلك أكثر مما هو ، فتكون " ما " والاسم مصدرا ، ولو لم ترد المصدر لكان الكلام بمن ، لأن من التي تكون للناس وأشباههم ، ومحكي عن العرب : قد كنت أراك أعقل منك مثل ذلك ، وقد كنت أرى أنه غير ما هو ، بمعنى : كنت أراه على غير ما رأيت .
وروي عن ابن عباس في ذلك ما حدثني به علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن على ، عن ابن عباس في قوله ( وقليل ما هم ) يقول : وقليل الذين هم .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ) قال : قليل من لا يبغي .
فعلى هذا التأويل الذي تأوله ابن عباس معنى الكلام : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وقليل الذين [ ص: 181 ] هم كذلك ، بمعنى : الذين لا يبغي بعضهم على بعض ، و " ما " على هذا القول بمعنى : من .
وقوله ( وظن داود أنما فتناه ) يقول : وعلم داود أنما ابتليناه ، كما :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وظن داود ) : علم داود .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا عن ابن علية ، أبي رجاء ، عن الحسن ( وظن داود أنما فتناه ) قال : ظن أنما ابتلي بذاك .
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ( وظن داود أنما فتناه ) قال : ظن أنما ابتلي بذاك .
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ( وظن داود أنما فتناه ) اختبرناه .
والعرب توجه الظن إذا أدخلته على الإخبار كثيرا إلى العلم الذي هو من غير وجه العيان .
وقوله ( فاستغفر ربه ) يقول : فسأل داود ربه غفران ذنبه ( وخر راكعا ) يقول : وخر ساجدا لله ( وأناب ) يقول : ورجع إلى رضا ربه ، وتاب من خطيئته .
واختلف في سبب البلاء الذي ابتلي به نبي الله داود - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم : كان سبب ذلك أنه تذكر ما أعطى الله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من حسن الثناء الباقي لهم في الناس ، فتمنى مثله ، فقيل له : إنهم امتحنوا فصبروا ، فسأل أن يبتلى كالذي ابتلوا ، ويعطى كالذي أعطوا إن هو صبر .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ) قال : إن داود قال : يا رب قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لوددت أنك أعطيتني مثله ، قال الله : إني ابتليتهم بما لم أبتلك به ، فإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم به ، وأعطيتك كما أعطيتهم قال : نعم ، قال له : فاعمل حتى أرى بلاءك ، فكان ما شاء الله أن يكون ، وطال ذلك عليه ، فكاد أن ينساه ، فبينا هو في محرابه ، إذ وقعت عليه حمامة من ذهب فأراد أن يأخذها ، فطار إلى كوة المحراب ، فذهب ليأخذها ، فطارت ، فاطلع من الكوة ، فرأى امرأة تغتسل ، فنزل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من [ ص: 182 ] المحراب ، فأرسل إليها فجاءته ، فسألها عن زوجها وعن شأنها ، فأخبرته أن زوجها غائب ، فكتب إلى أمير تلك السرية أن يؤمره على السرايا ليهلك زوجها ، ففعل ، فكان يصاب أصحابه وينجو ، وربما نصروا ، وإن الله عز وجل لما رأى الذي وقع فيه داود ، أراد أن يستنقذه ، فبينما داود ذات يوم في محرابه ، إذ تسور عليه الخصمان من قبل وجهه ، فلما رآهما وهو يقرأ فزع وسكت ، وقال : لقد استضعفت في ملكي حتى إن الناس يتسورون علي محرابي ، قالا له : ( لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض ) ولم يكن لنا بد من أن نأتيك ، فاسمع منا ، قال أحدهما : ( إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ) أنثى ( ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها ) يريد أن يتمم بها مائة ، ويتركني ليس لي شيء ( وعزني في الخطاب ) قال : إن دعوت ودعا كان أكثر ، وإن بطشت وبطش كان أشد مني ، فذلك قوله ( وعزني في الخطاب ) قال له داود : أنت كنت أحوج إلى نعجتك منه ( لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ) . . إلى قوله ( وقليل ما هم ) ونسي نفسه - صلى الله عليه وسلم - فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر حين قال ذلك ، فتبسم أحدهما إلى الآخر ، فرآه داود وظن أنما فتن ( فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ) أربعين ليلة ، حتى نبتت الخضرة من دموع عينيه ، ثم شدد الله له ملكه .
حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن في قوله ( السدي وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ) قال : كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام : يوم يقضي فيه بين الناس ، ويوم يخلو فيه لعبادة ربه ، ويوم يخلو فيه لنسائه ، وكان له تسع وتسعون امرأة ، وكان فيما يقرأ من الكتب أنه كان يجد فيه فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فلما وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب قال : يا رب إن الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي ، فأعطني مثل ما أعطيتهم ، وافعل بي مثل ما فعلت بهم قال : فأوحى الله إليه : إن آباءك ابتلوا ببلايا لم تبتل بها ، ابتلي إبراهيم بذبح ابنه ، وابتلي إسحاق بذهاب بصره ، وابتلي يعقوب بحزنه على يوسف ، وإنك لم تبتل من ذلك بشيء قال : يا رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم به ، وأعطني مثل ما أعطيتهم ، قال . فأوحي إليه : إنك مبتلى فاحترس قال : فمكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث ، إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب ، حتى وقع عند رجليه وهو قائم يصلي ، فمد يده ليأخذه ، فتنحى فتبعه ، فتباعد حتى وقع في كوة ، فذهب ليأخذه ، فطار من الكوة ، فنظر أين يقع ، فيبعث في أثره . قال : فأبصر امرأة تغتسل على سطح [ ص: 183 ] لها ، فرأى امرأة من أجمل الناس خلقا ، فحانت منها التفاتة فأبصرته ، فألقت شعرها فاستترت به قال : فزاده ذلك فيها رغبة قال : فسأل عنها ، فأخبر أن لها زوجا ، وأن زوجها غائب بمسلحة كذا وكذا قال : فبعث إلى صاحب المسلحة أن يبعث أهريا إلى عدو كذا وكذا قال : فبعثه ، ففتح له . قال : وكتب إليه بذلك قال : فكتب إليه أيضا : أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا ، أشد منهم بأسا قال : فبعثه ففتح له أيضا . قال : فكتب إلى داود بذلك قال : فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا ، فبعثه فقتل المرة الثالثة قال : وتزوج امرأته .
قال : فلما دخلت عليه قال : لم تلبث عنده إلا يسيرا حتى بعث الله ملكين في صور إنسيين ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فوجداه في يوم عبادته ، فمنعهما الحرس أن يدخلا فتسوروا عليه المحراب ، قالا فما شعر وهو يصلي إذ هو بهما بين يديه جالسين قال : ففزع منهما ، فقالا ( لا تخف ) إنما نحن ( خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط ) يقول : لا تحف ( واهدنا إلى سواء الصراط ) : إلى عدل القضاء . قال : فقال : قصا علي قصتكما قال : فقال أحدهما : ( إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ) فهو يريد أن يأخذ نعجتي ، فيكمل بها نعاجه مائة . قال : فقال للآخر : ما تقول ؟ فقال : إن لي تسعا وتسعين نعجة ، ولأخي هذا نعجة واحدة ، فأنا أريد أن آخذها منه ، فأكمل بها نعاجي مائة قال : وهو كاره ؟ قال : وهو كاره قال : وهو كاره ؟ قال : إذن لا ندعك وذاك قال : ما أنت على ذلك بقادر قال : فإن ذهبت تروم ذلك أو تريد ، ضربنا منك هذا وهذا وهذا ، وفسر أسباط : طرف الأنف ، وأصل الأنف والجبهة قال : يا داود أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا وهذا ، حيث لك تسع وتسعون نعجة امرأة ، ولم يكن لأهريا إلا امرأة واحدة ، فلم تزل به تعرضه للقتل حتى قتلته ، وتزوجت امرأته . قال : فنظر فلم ير شيئا ، فعرف ما قد وقع فيه ، وما قد ابتلي به . قال : فخر ساجدا قال : فبكى . قال : فمكث يبكي ساجدا أربعين يوما لا يرفع [ ص: 184 ] رأسه إلا لحاجة منها ، ثم يقع ساجدا يبكي ، ثم يدعو حتى نبت العشب من دموع عينيه . قال : فأوحى الله إليه بعد أربعين يوما : يا داود ارفع رأسك ، فقد غفرت لك ، فقال : يا رب كيف أعلم أنك قد غفرت لي وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء ، إذا جاءك أهريا يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه دما فى قبل عرشك يقول : يا رب سل هذا فيم قتلني ؟ قال : فأوحى إليه : إذا كان ذلك دعوت أهريا فأستوهبك منه ، فيهبك لي ، فأثيبه بذلك الجنة قال : رب الآن علمت أنك قد غفرت لي قال : فما استطاع أن يملأ عينيه من السماء حياء من ربه حتى قبض - صلى الله عليه وسلم - .
حدثني علي بن سهل قال : ثنا عن الوليد بن مسلم قال : ثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال : نقش عطاء الخراساني داود خطيئته في كفه لكيلا ينساها قال : فكان إذا رآها خفقت يده واضطربت .
وقال آخرون : بل كان ذلك لعارض كان عرض في نفسه من ظن أنه يطيق أن يتم يوما لا يصيب فيه حوبة ، فابتلي بالفتنة التي ابتلي بها في اليوم الذي طمع في نفسه بإتمامه بغير إصابة ذنب .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن مطر ، عن الحسن : إن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء : يوما لنسائه ، ويوما لعبادته ، ويوما لقضاء بني إسرائيل ، ويوما لبني إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه ، ويبكيهم ويبكونه ، فلما كان يوم بني إسرائيل قال : ذكروا فقالوا : هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا ؟ فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك ، فلما كان يوم عبادته ، أغلق أبوابه ، وأمر أن لا يدخل عليه أحد ، وأكب على التوراة ، فبينما هو يقرؤها ، فإذا حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن ، قد وقعت بين يديه ، فأهوى إليها ليأخذها قال : فطارت ، فوقعت غير بعيد ، من غير أن تؤيسه من نفسها قال : فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل ، فأعجبه خلقها وحسنها قال : فلما رأت ظله في الأرض ، جللت نفسها بشعرها ، فزاده ذلك أيضا إعجابا بها ، وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه ، فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا ، مكان إذا سار إليه لم يرجع قال : ففعل ، فأصيب فخطبها فتزوجها . قال : وقال قتادة : بلغنا أنها أم سليمان قال : فبينما هو في المحراب ، إذ [ ص: 185 ] تسور الملكان عليه ، وكان الخصمان إذا أتوه يأتونه من باب المحراب ، ففزع منهم حين تسوروا المحراب ، فقالوا : ( لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض ) . . حتى بلغ ( ولا تشطط ) : أي لا تمل ( واهدنا إلى سواء الصراط ) : أي أعدله وخيره ( إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ) وكان لداود تسع وتسعون امرأة ( ولي نعجة واحدة ) قال : وإنما كان للرجل امرأة واحدة ( فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب ) أي : ظلمني وقهرني ، فقال : ( لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ) . . إلى قوله ( وقليل ما هم وظن داود ) فعلم داود أنما صمد له : أي عنى به ذلك ( وخر راكعا وأناب ) قال : وكان في حديث مطر ، أنه سجد أربعين ليلة ، حتى أوحى الله إليه : إني قد غفرت لك قال : رب وكيف تغفر لي وأنت حكم عدل ، لا تظلم أحدا ؟ قال : إني أقضيك له ، ثم أستوهبه دمك أو ذنبك ، ثم أثيبه حتى يرضى قال : الآن طابت نفسي ، وعلمت أنك قد غفرت لي .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة قال : ثني محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم ، عن قال : لما اجتمعت وهب بن منبه اليماني بنو إسرائيل ، على داود ، أنزل الله عليه الزبور ، وعلمه صنعة الحديد ، فألانه له ، وأمر الجبال والطير أن يسبحن معه إذا سبح ، ولم يعط الله فيما يذكرون أحدا من خلقه مثل صوته ، كان إذا قرأ الزبور فيما يذكرون ، تدنو له الوحوش حتى يأخذ بأعناقها ، وإنها لمصيخة تسمع لصوته ، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج ، إلا على أصناف صوته ، وكان شديد الاجتهاد دائب العبادة ، فأقام في بني إسرائيل يحكم فيهم بأمر الله نبيا مستخلفا ، وكان شديد الاجتهاد من الأنبياء ، كثير البكاء ، ثم عرض من فتنة تلك المرأة ما عرض له ، وكان له محراب يتوحد فيه لتلاوة الزبور ، ولصلاته إذا صلى ، وكان أسفل منه جنينة لرجل من بني إسرائيل ، كان عند ذلك الرجل المرأة التي أصاب داود فيها ما أصابه
حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم ، عن أن وهب بن منبه داود حين دخل محرابه ذلك اليوم قال : لا يدخلن علي محرابي اليوم أحد حتى الليل ، ولا يشغلني شيء عما خلوت له حتى أمسي ، ودخل محرابه ، ونشر زبوره يقرؤه وفي المحراب كوة تطلعه على تلك الجنينة ، فبينا هو جالس يقرأ زبوره ، إذ أقبلت حمامة من ذهب حتى وقعت في الكوة ، فرفع رأسه فرآها ، فأعجبته ، ثم ذكر ما كان قال : لا يشغله شيء عما دخل له ، فنكس رأسه وأقبل على زبوره ، فتصوبت [ ص: 186 ] الحمامة للبلاء والاختبار من الكوة ، فوقعت بين يديه ، فتناولها بيده ، فاستأخرت غير بعيد ، فاتبعها ، فنهضت إلى الكوة ، فتناولها في الكوة ، فتصوبت إلى الجنينة ، فأتبعها بصره أين تقع ، فإذا المرأة جالسة تغتسل بهيئة الله أعلم بها في الجمال والحسن والخلق ، فيزعمون أنها لما رأته نقضت رأسها فوارت به جسدها منه ، واختطفت قلبه ، ورجع إلى زبوره ومجلسه ، وهي من شأنه لا يفارق قلبه ذكرها . وتمادى به البلاء حتى أغزى زوجها ، ثم أمر صاحب جيشه فيما يزعم أهل الكتاب أن يقدم زوجها للمهالك حتى أصابه بعض ما أراد به من الهلاك ، ولداود تسع وتسعون امرأة ، فلما أصيب زوجها خطبها داود ، فنكحها ، فبعث الله إليه وهو في محرابه ملكين يختصمان إليه ، مثلا يضربه له ولصاحبه ، فلم يرع داود إلا بهما واقفين على رأسه في محرابه ، فقال : ما أدخلكما علي ؟ قالا لا تخف لم ندخل لبأس ولا لريبة ( خصمان بغى بعضنا على بعض ) فجئناك لتقضي بيننا ( فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ) : أي احملنا على الحق ، ولا تخالف بنا إلى غيره ، قال الملك الذي يتكلم عن أوريا بن حنانيا زوج المرأة : ( إن هذا أخي ) أي على ديني ( له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها ) أي احملني عليها ، ثم عزني في الخطاب : أي قهرني في الخطاب ، وكان أقوى مني هو وأعز ، فحاز نعجتي إلى نعاجه وتركني لا شيء لي ، فغضب داود ، فنظر إلى خصمه الذي لم يتكلم ، فقال : لئن كان صدقني ما يقول ، لأضربن بين عينيك بالفأس! ثم ارعوى داود ، فعرف أنه هو الذي يراد بما صنع في امرأة أوريا فوقع ساجدا تائبا منيبا باكيا ، فسجد أربعين صباحا صائما لا يأكل فيها ولا يشرب ، حتى أنبت دمعه الخضر تحت وجهه ، وحتى أندب السجود في لحم وجهه ، فتاب الله عليه وقبل منه .
ويزعمون أنه قال : أي رب هذا غفرت ما جنيت في شأن المرأة ، فكيف بدم القتيل المظلوم ؟ قيل له : يا داود - فيما زعم أهل الكتاب - أما إن ربك لم يظلمه بدمه ، ولكنه سيسأله إياك فيعطيه ، فيضعه عنك ، فلما فرج عن داود ما كان فيه ، رسم خطيئته في كفه اليمنى بطن راحته ، فما رفع إلى فيه طعاما ولا شرابا قط إلا بكى إذا رآها ، وما قام خطيبا في الناس قط إلا نشر راحته ، فاستقبل بها الناس ليروا رسم خطيئته في يده .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا ابن إدريس قال : سمعت ليثا يذكر عن مجاهد قال : لما أصاب داود الخطيئة خر لله ساجدا أربعين يوما حتى نبت من دموع [ ص: 187 ] عينيه من البقل ما غطى رأسه ، ثم نادى : رب قرح الجبين ، وجمدت العين ، وداود لم يرجع إليه في خطيئته شيء ، فنودي : أجائع فتطعم ، أم مريض فتشفى ، أم مظلوم فينتصر لك ؟ قال : فنحب نحبة هاج كل شيء كان نبت ، فعند ذلك غفر له . وكانت خطيئته مكتوبة بكفه يقرؤها ، وكان يؤتى بالإناء ليشرب فلا يشرب إلا ثلثه أو نصفه ، وكان يذكر خطيئته ، فينحب النحبة تكاد مفاصله تزول بعضها من بعض ، ثم ما يتم شرابه حتى يملأه من دموعه ، وكان يقال : إن دمعة داود ، تعدل دمعة الخلائق ، ودمعة آدم تعدل دمعة داود ودمعة الخلائق قال : فهو يجيء يوم القيامة خطيئته مكتوبة بكفه ، فيقول : رب ذنبي ذنبي قدمني قال : فيقدم فلا يأمن فيقول : رب أخرني فيؤخر فلا يأمن .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك سمعه يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن داود النبي - صلى الله عليه وسلم - حين نظر إلى المرأة فأهم ، قطع على بني إسرائيل ، فأوصى صاحب البعث ، فقال : إذا حضر العدو ، فقرب فلانا بين يدي التابوت ، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به ، ومن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو يهزم عنه الجيش ، فقتل زوج المرأة ونزل الملكان على داود يقصان عليه قصته ، ففطن داود فسجد ، فمكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه ، وأكلت الأرض جبينه وهو يقول في سجوده " فلم أحص من الرقاشي إلا هؤلاء الكلمات : " رب زل داود أبعد ما بين المشرق والمغرب ، إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه ، جعلت ذنبه حديثا في الخلوف من بعده ، فجاءه جبرائيل - صلى الله عليه وسلم - من بعد الأربعين ليلة قال : يا داود إن الله قد غفر لك الهم الذي هممت به ، فقال داود : علمت أن الرب قادر على أن يغفر لي الهم الذي هممت به ، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال : يا رب دمي الذي عند داود ، فقال جبرائيل - صلى الله عليه وسلم - : ما سألت ربك عن ذلك ، ولئن شئت لأفعلن ، فقال : نعم ، فعرج جبريل وسجد داود ، فمكث ما شاء الله ، ثم نزل فقال : قد سألت ربك عز وجل يا داود عن الذي أرسلتني فيه ، فقال : قل لداود : إن الله يجمعكما يوم القيامة فيقول : هب لي دمك الذي عند داود ، فيقول : هو لك يا رب ، فيقول : فإن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضا .
[ ص: 188 ] حدثنني علي بن سهل قال : ثنا قال : ثنا الوليد بن مسلم ابن جابر ، عن : أن كتاب صاحب البعث جاء ينعي من قتل ، فلما قرأ عطاء الخراساني داود نعي رجل منهم رجع ، فلما انتهى إلى اسم الرجل قال : كتب الله على كل نفس الموت قال : فلما انقضت عدتها خطبها .