القول في تأويل قوله تعالى : ( فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب    ( 36 ) والشياطين كل بناء وغواص   ( 37 ) وآخرين مقرنين في الأصفاد   ( 38 ) هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب   ( 39 ) وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب   ( 40 ) ) 
يقول - تعالى ذكره - : فاستجبنا له دعاءه ، فأعطيناه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ( فسخرنا له الريح ) مكان الخيل التي شغلته عن الصلاة ( تجري بأمره رخاء   ) يعني : رخوة لينة ، وهي من الرخاوة . 
كما حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع  قال : ثنا بشر بن المفضل  قال : ثنا عوف ،  عن الحسن  أن نبي الله سليمان   - صلى الله عليه وسلم - لما عرضت  [ ص: 202 ] عليه الخيل ، فشغله النظر إليها عن صلاة العصر ( حتى توارت بالحجاب   ) فغضب لله ، فأمر بها فعقرت ، فأبدله الله مكانها أسرع منها ، سخر الريح تجري بأمره رخاء حيث شاء ، فكان يغدو من إيلياء  ، ويقيل بقزوين  ، ثم يروح من قزوين  ويبيت بكابل   . 
حدثت عن الحسن  قال : سمعت أبا معاذ  يقول : أخبرنا عبيد  قال : سمعت الضحاك  يقول في قوله ( وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي   ) فإنه دعا يوم دعا ولم يكن في ملكه الريح ، وكل بناء وغواص من الشياطين ، فدعا ربه عند توبته واستغفاره ، فوهب الله له ما سأل ، فتم ملكه  . 
واختلف أهل التأويل في معنى الرخاء ، فقال فيه بعضهم نحو الذي قلنا فيه . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني محمد بن عمرو  قال : ثنا أبو عاصم  قال : ثنا عيسى ،  عن ابن أبي نجيح  عن مجاهد  في قوله ( تجري بأمره رخاء   ) قال : طيبة  . 
حدثني الحارث  قال : ثنا الحسن  قال : ثنا ورقاء ،  عن ابن أبي نجيح  عن مجاهد  بنحوه . 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب   ) قال : سريعة طيبة قال : ليست بعاصفة ولا بطيئة  . 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد ،  في قوله ( رخاء ) قال : الرخاء اللينة  . 
حدثنا ابن بشار  قال : ثنا أبو عامر  قال : ثنا قرة ،  عن الحسن  في قوله ( رخاء حيث أصاب   ) قال : ليست بعاصفة ، ولا الهينة ، بين ذلك رخاء  . 
وقال آخرون : معنى ذلك : مطيعة لسليمان   . 
 [ ص: 203 ] ذكر من قال ذلك : 
حدثني علي  قال : ثنا أبو صالح  قال : ثني معاوية ،  عن علي ،  عن ابن عباس  قوله ( رخاء ) يقول : مطيعة له  . 
حدثني محمد بن سعد  قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس   ( تجري بأمره رخاء   ) قال : يعني بالرخاء : المطيعة  . 
حدثنا  ابن المثنى  قال : ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله  قال : ثنا شعبة ،   [ ص: 204 ] عن أبي رجاء ،  عن الحسن  في قوله ( تجري بأمره رخاء   ) قال : مطيعة  . 
حدثت عن الحسين  قال : سمعت أبا معاذ  يقول : أخبرنا عبيد  قال : سمعت الضحاك  يقول في قوله ( رخاء ) يقول : مطيعة  . 
حدثنا محمد بن الحسين  قال : ثنا أحمد  قال : ثنا أسباط ،  عن  السدي  قوله ( رخاء ) قال : طوعا  . وقوله ( حيث أصاب ) يقول : حيث أراد ، من قولهم : أصاب الله بك خيرا : أي أراد الله بك خيرا . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني علي  قال : ثنا أبو صالح  قال : ثني معاوية ،  عن علي  عن ابن عباس  قوله ( حيث أصاب ) يقول : حيث أراد  . 
حدثني محمد بن سعد  قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس  قوله ( حيث أصاب ) يقول : حيث أراد ، انتهى عليها  . 
حدثني محمد بن عمرو  قال : ثنا أبو عاصم  قال : ثنا عيسى ،  وحدثني الحارث  قال : ثنا الحسن  قال . ثنا ورقاء  جميعا ، عن ابن أبي نجيح  عن مجاهد  قوله ( حيث أصاب ) قال : حيث شاء  . 
حدثنا  ابن المثنى  قال : ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله  قال : ثنا شعبة ،  عن أبي رجاء ،  عن الحسن  في قوله ( حيث أصاب ) قال : حيث أراد  . 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( حيث أصاب ) قال : إلى حيث أراد  . 
حدثت عن الحسين  قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد  قال : سمعت الضحاك  يقول في قوله ( حيث أصاب ) قال : حيث أراد  . 
حدثنا ابن حميد  قال : ثنا سلمة ،  عن ابن إسحاق ،  عن بعض أهل العلم ، عن  وهب بن منبه   ( حيث أصاب ) : أي حيث أراد  . 
حدثنا محمد بن الحسين  قال : ثنا أحمد بن المفضل  قال : ثنا أسباط ،  عن  السدي   ( حيث أصاب ) قال : حيث أراد  . 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد ،  في قوله ( حيث أصاب ) قال : حيث أراد  . 
وقوله ( والشياطين كل بناء وغواص   ) يقول - تعالى ذكره - : وسخرنا له الشياطين سلطناه عليها مكان ما ابتليناه بالذي ألقينا على كرسيه منها يستعملها فيما يشاء من أعماله من بناء وغواص ، فالبناة منها يصنعون محاريب وتماثيل ، والغاصة يستخرجون له الحلي من البحار ، وآخرون ينحتون له جفانا وقدورا ، والمردة في الأغلال مقرنون . 
كما حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( والشياطين كل بناء وغواص   ) قال : يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ، وغواص يستخرجون الحلي من البحر ( وآخرين مقرنين في الأصفاد   ) قال : مردة الشياطين في الأغلال  . 
حدثت عن المحاربي ،  عن جويبر ،  عن الضحاك   ( والشياطين كل بناء وغواص   ) قال : لم يكن هذا في ملك داود  ، أعطاه الله ملك داود  وزاده الريح ( والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد   ) يقول : في  [ ص: 205 ] السلاسل  . 
حدثنا محمد  قال : ثنا أحمد  قال : ثنا أسباط ،  عن  السدي  قوله ( الأصفاد ) قال : تجمع اليدين إلى عنقه ، والأصفاد : جمع صفد وهي الأغلال . 
وقوله ( هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب   ) اختلف أهل التأويل في المشار إليه بقوله ( هذا ) من العطاء ، وأي عطاء أريد بقوله : عطاؤنا ، فقال بعضهم : عني به الملك الذي أعطاه الله . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة  في قوله ( هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب   ) قال : قال الحسن   : الملك الذي أعطيناك فأعط ما شئت وامنع ما شئت  . 
حدثت عن المحاربي ،  عن جويبر ،  عن الضحاك   ( هذا عطاؤنا ) : هذا ملكنا  . 
وقال آخرون : بل عنى بذلك تسخيره له الشياطين ، وقالوا : ومعنى الكلام : هذا الذي أعطيناك من كل بناء وغواص من الشياطين ، وغيرهم عطاؤنا . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب   ) قال : هؤلاء الشياطين احبس من شئت منهم فى وثاقك وفي عذابك أو سرح من شئت منهم تتخذ عنده يدا ، اصنع ما شئت  . 
وقال آخرون : بل ذلك ما كان أوتي من القوة على الجماع . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثت عن أبي يوسف  عن سعيد بن طريف  عن عكرمة ،  عن ابن عباس  قال : كان سليمان  في ظهره ماء مائة رجل ، وكان له ثلاثمائة امرأة  [ ص: 206 ] وتسعمائة سرية ( هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب   )  . 
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب القول الذي ذكرناه عن الحسن  والضحاك  من أنه عني بالعطاء ما أعطاه من الملك - تعالى ذكره - وذلك أنه - جل ثناؤه - ذكر ذلك عقيب خبره عن مسألة نبيه سليمان  صلوات الله وسلامه عليه إياه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فأخبر أنه سخر له ما لم يسخر لأحد من بني آدم  ، وذلك تسخيره له الريح والشياطين على ما وصفت ، ثم قال له عز ذكره : هذا الذي أعطيناك من الملك ، وتسخيرنا ما سخرنا لك - عطاؤنا ، ووهبنا لك ما سألتنا أن نهبه لك من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعدك ( فامنن أو أمسك بغير حساب   ) 
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( فامنن أو أمسك بغير حساب   ) فقال بعضهم : عنى بذلك فأعط من شئت ما شئت من الملك الذي آتيناك ، وامنع ما شئت منه ما شئت ، لا حساب عليك في ذلك . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة  قال : قال الحسن   ( فامنن أو أمسك بغير حساب   ) الملك الذي أعطيناك ، فأعط ما شئت وامنع ما شئت ، فليس عليك تبعة ولا حساب  . 
حدثت عن المحاربي ،  عن جويبر ،  عن الضحاك   ( فامنن أو أمسك بغير حساب   ) سأل ملكا هنيئا لا يحاسب به يوم القيامة ، فقال : ما أعطيت ، وما أمسكت ، فلا حرج عليك  . 
حدثنا ابن وكيع  قال : ثنا أبي ، عن سفيان ،  عن أبيه ، عن عكرمة   ( فامنن أو أمسك بغير حساب   ) قال : أعط أو أمسك ، فلا حساب عليك  . 
حدثني محمد بن عمرو  قال : ثنا أبو عاصم  قال : ثنا عيسى ،  وحدثني الحارث  قال : ثنا الحسن  قال : ثنا ورقاء  جميعا ، عن ابن أبي نجيح  عن  [ ص: 207 ] مجاهد   ( فامنن ) قال : أعط أو أمسك بغير حساب  . 
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أعتق من هؤلاء الشياطين الذين سخرناهم لك من الخدمة ، أو من الوثاق ممن كان منهم مقرنا في الأصفاد من شئت واحبس من شئت فلا حرج عليك في ذلك . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( فامنن أو أمسك بغير حساب   ) يقول : هؤلاء الشياطين احبس من شئت منهم في وثاقك وفي عذابك ، وسرح من شئت منهم تتخذ عنده يدا ، اصنع ما شئت لا حساب عليك في ذلك  . 
حدثني محمد بن سعد  قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس   ( فامنن أو أمسك بغير حساب   ) يقول : أعتق من الجن من شئت ، وأمسك من شئت  . حدثنا محمد  قال : ثنا أحمد  قال : ثنا أسباط ،  عن  السدي  قوله ( فامنن أو أمسك بغير حساب   ) قال : تمن على من تشاء منهم فتعتقه ، وتمسك من شئت فتستخدمه ليس عليك في ذلك حساب  . 
وقال آخرون : بل معنى ذلك : هذا الذي أعطيناك من القوة على الجماع - عطاؤنا ، فجامع من شئت من نسائك وجواريك ، ما شئت بغير حساب ، واترك جماع من شئت منهن . 
وقال آخرون : بل ذلك من المقدم والمؤخر . ومعنى الكلام : هذا عطاؤنا بغير حساب ، فامنن أو أمسك . وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : " هذا فامنن أو أمسك عطاؤنا بغير حساب " . 
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين يقول : في قوله ( بغير حساب ) وجهان : أحدهما : بغير جزاء ولا ثواب ، والآخر : منة ولا قلة . 
 [ ص: 208 ] والصواب من القول في ذلك ما ذكرته عن أهل التأويل من أن معناه : لا يحاسب على ما أعطى من ذلك ، الملك والسلطان . وإنما قلنا ذلك هو الصواب لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه . 
وقوله ( وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب   ) يقول : وإن لسليمان  عندنا لقربة بإنابته إلينا وتوبته وطاعته لنا ، وحسن مآب : يقول : وحسن مرجع ومصير في الآخرة . 
كما حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب   ) : أي مصير  . 
إن قال لنا قائل : وما وجه رغبة سليمان  إلى ربه في الملك ، وهو نبي من الأنبياء ، وإنما يرغب في الملك أهل الدنيا المؤثرون لها على الآخرة ؟ أم ما وجه مسألته إياه ، إذ سأله ذلك ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ؟ وما كان يضره أن يكون كل من بعده يؤتى مثل الذي أوتي من ذلك ؟ أكان به بخل بذلك ، فلم يكن من ملكه يعطي ذلك من يعطاه ، أم حسد للناس ، كما ذكر عن  الحجاج بن يوسف  فإنه ذكر أنه قرأ قوله ( وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي   )  فقال : إن كان لحسودا ، فإن ذلك ليس من أخلاق الأنبياء! قيل : أما رغبته إلى ربه فيما يرغب إليه من الملك ، فلم تكن - إن شاء الله - به رغبة في الدنيا ، ولكن إرادة منه أن يعلم منزلته من الله فى إجابته فيما رغب إليه فيه ، وقبوله توبته ، وإجابته دعاءه . 
وأما مسألته ربه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فإنا قد ذكرنا فيما مضى قبل قول من قال : إن معنى ذلك : هب لي ملكا لا أسلبه كما سلبته قبل . وإنما معناه عند هؤلاء : هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يسلبنيه . وقد يتجه ذلك أن يكون بمعنى : لا ينبغي لأحد سواي من أهل زماني ، فيكون حجة وعلما لي على نبوتي وأني رسولك إليهم مبعوث ، إذ كانت الرسل لا بد لها من أعلام تفارق بها سائر الناس سواهم . ويتجه أيضا لأن يكون معناه : وهب لي  [ ص: 209 ] ملكا تخصني به ، لا تعطيه أحدا غيري تشريفا منك لي بذلك ، وتكرمة ، لتبين منزلتي منك به من منازل من سواي ، وليس في وجه من هذه الوجوه مما ظنه الحجاج في معنى ذلك - شيء . 
				
						
						
