يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : قل يا محمد لمشركي قومك من قريش ( ما كنت بدعا من الرسل ) يعني : ما كنت أول رسل الله التي أرسلها إلى خلقه ، قد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم; يقال منه : هو بدع في هذا الأمر ، وبديع فيه ، إذا كان فيه أول . ومن البدع قول عدي بن زيد . [ ص: 98 ]
فلا أنا بدع من حوادث تعتري رجلا عرت من بعد بؤسى وأسعد
ومن البديع قول الأحوص :
فخرت فانتمت فقلت انظريني ليس جهل أتيته ببديع
يعني بأول ، يقال : هو بدع من قوم أبداع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( ما كنت بدعا من الرسل ) يقول : لست بأول الرسل .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( ما كنت بدعا من الرسل ) قال : يقول : ما كنت أول رسول أرسل .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( ما كنت بدعا من الرسل ) قال : ما كنت أولهم .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا عبد الوهاب بن معاوية ، عن أبي هبيرة ، [ ص: 99 ] قال : سألت قتادة ( قل ما كنت بدعا من الرسل ) قال : أي قد كانت قبلي رسل .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( قل ما كنت بدعا من الرسل ) يقول : أي أن الرسل قد كانت قبلي .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله ( بدعا من الرسل ) قال : قد كانت قبله رسل .
وقوله ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : عنى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل له : قل للمؤمنين بك ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة ، وإلام نصير هنالك ، قالوا ثم بين الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين به حالهم في الآخرة ، فقيل له ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) وقال : ( ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم ) .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) فأنزل الله بعد هذا ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا ، عن يحيى بن واضح الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصري قالا : قال في حم الأحقاف ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين ) فنسختها الآية التي في سورة الفتح ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ) . . . الآية ، فخرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - حين نزلت هذه الآية ، فبشرهم بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فقال له رجال من المؤمنين : هنيئا لك يا نبي الله ، قد علمنا ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فأنزل الله - عز وجل - في سورة [ ص: 100 ] الأحزاب ، فقال ( وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ) وقال ( ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ) . . . الآية ، فبين الله ما يفعل به وبهم .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) ثم دري أو علم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك ما يفعل به ، يقول ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) قال : قد بين له أنه قد غفر من ذنبه ما تقدم وما تأخر .
وقال آخرون : بل ذلك أمر من الله - جل ثناؤه - نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقوله للمشركين من قومه ويعلم أنه لا يدري إلام يصير أمره وأمرهم في الدنيا ، أيصير أمره معهم أن يقتلوه أو يخرجوه من بينهم ، أو يؤمنوا به فيتبعوه ، وأمرهم إلى الهلاك ، كما أهلكت الأمم المكذبة رسلها من قبلهم ، أو إلى التصديق له فيما جاءهم به من عند الله .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا قال : ثنا يحيى بن واضح أبو بكر الهذلي ، عن الحسن في قوله ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) فقال : أما في الآخرة فمعاذ الله ، قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل ، ولكن قال : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا ، أخرج كما أخرجت الأنبياء قبلي أو أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي ، ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم ، أمتي المكذبة ، أم أمتي المصدقة ، أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفا ، أم مخسوف بها خسفا ، ثم أوحي إليه : ( وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس ) يقول أحطت لك بالعرب [ ص: 101 ] أن لا يقتلوك ، فعرف أنه لا يقتل .
ثم أنزل الله - عز وجل - : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ) يقول : أشهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الأديان ، ثم قال له في أمته : ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) فأخبره الله ما يصنع به ، وما يصنع بأمته .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما أدري ما يفترض علي وعليكم ، أو ينزل من حكم ، وليس يعني ما أدري ما يفعل بي ولا بكم غدا في المعاد من ثواب الله من أطاعه ، وعقابه من كذبه .
وقال آخرون : إنما أمر أن يقول هذا في أمر كان ينتظره من قبل الله - عز وجل - في غير الثواب والعقاب .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة وأشبهها بما دل عليه التنزيل ، القول الذي قاله ، الذي رواه عنه الحسن البصري أبو بكر الهذلي .
وإنما قلنا ذلك أولاها بالصواب لأن الخطاب من مبتدأ هذه السورة إلى هذه الآية ، والخبر خرج من الله - عز وجل - خطابا للمشركين وخبرا عنهم ، وتوبيخا لهم ، واحتجاجا من الله - تعالى ذكره - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - عليهم .
فإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن هذه الآية أيضا سبيلها سبيل ما قبلها وما بعدها في أنها احتجاج عليهم ، وتوبيخ لهم ، أو خبر عنهم . وإذا كان ذلك كذلك ، فمحال أن يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : قل للمشركين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة ، وآيات كتاب الله - عز وجل - في تنزيله ووحيه إليه متتابعة بأن المشركين في النار مخلدون ، والمؤمنين به في الجنان منعمون ، وبذلك يرهبهم مرة ، ويرغبهم أخرى ، ولو قال لهم ذلك ، لقالوا له : فعلام نتبعك إذن وأنت لا تدري إلى أي حال تصير غدا في القيامة ، إلى خفض ودعة ، أم إلى شدة وعذاب; وإنما اتباعنا إياك إن اتبعناك ، وتصديقنا بما تدعونا إليه ، رغبة في نعمة وكرامة نصيبها ، أو رهبة من عقوبة وعذاب نهرب منه ، ولكن [ ص: 102 ] ذلك كما قال الحسن ، ثم بين الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ما هو فاعل به ، وبمن كذب بما جاء به من قومه وغيرهم .
إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) يقول - تعالى ذكره - : قل لهم ما أتبع فيما آمركم به ، وفيما أفعله من فعل إلا وحي الله الذي يوحيه إلي ، ( وقوله ( وما أنا إلا نذير مبين ) يقول : وما أنا لكم إلا نذير ، أنذركم عقاب الله على كفركم به ، مبين : يقول : قد أبان لكم إنذاره ، وأظهر لكم دعاءه إلى ما فيه نصيحتكم ، يقول : فكذلك أنا .