القول في تأويل قوله تعالى ( لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني    ) 
قال أبو جعفر   : فقال جماعة من أهل التأويل : عنى الله تعالى ب "الناس" في قوله : "لئلا يكون للناس" ، أهل الكتاب . 
ذكر من قال ذلك : 
2292 - حدثنا بشر بن معاذ  قال : حدثنا  يزيد بن زريع  قال : حدثنا سعيد  ، عن قتادة  قوله : "لئلا يكون للناس عليكم حجة" ، يعني بذلك أهل الكتاب . قالوا - حين صرف نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة  البيت الحرام   - : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه! 
2293 - حدثني المثنى  قال : حدثنا إسحاق  قال : حدثنا ابن أبي جعفر  ،  [ ص: 200 ] عن أبيه ، عن الربيع  في قوله : "لئلا يكون للناس عليكم حجة " ، يعني بذلك أهل الكتاب ، قالوا - حين صرف نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة   - : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه! 
فإن قال قائل : فأية حجة كانت لأهل الكتاب بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس ،  على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؟ 
قيل : قد ذكرنا فيما مضى ما روي في ذلك . قيل : إنهم كانوا يقولون : ما درى محمد  وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم نحن! وقولهم : يخالفنا محمد  في ديننا ويتبع قبلتنا! فهي الحجة التي كانوا يحتجون بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، على وجه الخصومة منهم لهم ، والتمويه منهم بها على الجهال وأهل الغباء من المشركين . 
وقد بينا فيما مضى أن معنى حجاج القوم إياه ، الذي ذكره الله تعالى ذكره في كتابه ، إنما هي الخصومات والجدال . فقطع الله جل ثناؤه ذلك من حجتهم ، وحسمه بتحويل قبلة نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، من قبلة اليهود  إلى قبلة خليله إبراهيم  عليه السلام . وذلك هو معنى قول الله جل ثناؤه : "لئلا يكون للناس عليكم حجة " ، يعني ب "الناس " ، الذين كانوا يحتجون عليهم بما وصفت . 
وأما قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " ، فإنهم مشركو العرب من قريش ،  فيما تأوله أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
2294 - حدثني محمد بن عمرو  قال : حدثنا أبو عاصم  قال : حدثنا عيسى  ، عن ابن أبي نجيح  ، عن مجاهد   : "إلا الذين ظلموا منهم " ، قوم محمد  صلى الله عليه وسلم .  [ ص: 201 ] 
2295 - حدثني موسى بن هارون  قال : حدثنا عمرو بن حماد  قال : حدثنا أسباط ،  عن  السدي  ، قال : هم المشركون من أهل مكة   . 
2296 - حدثني المثنى  قال : حدثنا إسحاق  قال : حدثنا ابن أبي جعفر ،  عن أبيه ، عن الربيع   : "إلا الذين ظلموا منهم " ، يعني مشركي قريش   . 
2297 - حدثنا الحسن بن يحيى  قال : أخبرنا عبد الرزاق  قال : أخبرنا معمر  ، عن قتادة  ،  وابن أبي نجيح  ، عن مجاهد  في قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " قال : هم مشركو العرب . 
2298 - حدثنا بشر بن معاذ  قال : حدثنا  يزيد بن زريع  ، عن سعيد  ، عن قتادة  قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " ، و"الذين ظلموا " : مشركو قريش   . 
2299 - حدثنا القاسم  قال : حدثنا الحسين  قال : حدثني حجاج ،  عن  ابن جريج  قال : قال عطاء   : هم مشركو قريش   - قال  ابن جريج   : وأخبرني عبد الله بن كثير  أنه سمع  مجاهدا  يقول مثل قول عطاء   . 
فإن قال قائل : وأية حجة كانت لمشركي قريش  على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، في توجههم في صلاتهم إلى الكعبة ؟  وهل يجوز أن يكون للمشركين على المؤمنين - فيما أمرهم الله به أو نهاهم عنه - حجة ؟ 
قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت وذهبت إليه . وإنما "الحجة " في هذا الموضع ، الخصومة والجدال . ومعنى الكلام : لئلا يكون لأحد من الناس عليكم خصومة ودعوى باطل غير مشركي قريش  ، فإن لهم عليكم دعوى باطلا وخصومة بغير حق ، بقيلهم لكم : "رجع محمد  إلى قبلتنا ، وسيرجع إلى  [ ص: 202 ] ديننا " . فذلك من قولهم وأمانيهم الباطلة ، هي "الحجة " التي كانت لقريش  على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . ومن أجل ذلك استثنى الله تعالى ذكره "الذين ظلموا " من قريش  من سائر الناس غيرهم ، إذ نفى أن يكون لأحد منهم في قبلتهم التي وجههم إليها حجة . 
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
2300 - حدثني محمد بن عمرو  قال : حدثنا أبو عاصم  قال : حدثنا عيسى  ، عن ابن أبي نجيح  ، عن مجاهد  في قول الله تعالى ذكره : "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " ، قوم محمد  صلى الله عليه وسلم . قال مجاهد   : يقول : حجتهم ، قولهم : قد راجعت قبلتنا! 
2301 - حدثني المثنى  قال : حدثنا أبو حذيفة  قال : حدثنا شبل  ، عن ابن أبي نجيح  ، عن مجاهد  مثله - إلا أنه قال : قولهم : قد رجعت إلى قبلتنا! 
2302 - حدثنا الحسن بن يحيى  قال : أخبرنا عبد الرزاق  قال : حدثنا معمر  ، عن قتادة   وابن أبي نجيح  ، عن مجاهد  في قوله : "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " ، قالا : هم مشركو العرب ، قالوا حين صرفت القبلة إلى الكعبة   : قد رجع إلى قبلتكم ، فيوشك أن يرجع إلى دينكم! قال الله عز وجل : "فلا تخشوهم واخشوني " . 
2303 - حدثنا بشر بن معاذ  قال : حدثنا يزيد ،  عن سعيد ،  عن قتادة  قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " ، و"الذين ظلموا " : مشركو قريش   . يقول : إنهم سيحتجون عليكم بذلك ، فكانت حجتهم على نبي الله صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام  أنهم قالوا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا! فأنزل الله  [ ص: 203 ] تعالى ذكره في ذلك كله . 
2304 - حدثنا المثنى  قال : حدثنا إسحاق  قال : حدثنا ابن أبي جعفر  ، عن أبيه ، عن الربيع  مثله . 
2305 - حدثني موسى بن هارون  قال : حدثنا عمرو بن حماد  قال : حدثنا أسباط  ، عن  السدي  فيما يذكر ، عن أبي مالك  وعن أبي صالح  عن ابن عباس   - وعن  مرة الهمداني  ، عن ابن مسعود  وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : لما صرف نبي الله صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة ،  بعد صلاته إلى بيت المقدس ،  قال المشركون من أهل مكة   : تحير على محمد  دينه! فتوجه بقبلته إليكم ، وعلم أنكم كنتم أهدى منه سبيلا ويوشك أن يدخل في دينكم! فأنزل الله جل ثناؤه فيهم : "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني " . 
2306 - حدثنا القاسم  قال : حدثني الحسين  قال : حدثني حجاج  ، عن  ابن جريج  قال : قلت لعطاء   : قوله : " لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم   " قال : قالت قريش   - لما رجع إلى الكعبة  وأمر بها : - ما كان يستغني عنا! قد استقبل قبلتنا! فهي حجتهم ، وهم "الذين ظلموا" - قال  ابن جريج   : وأخبرني عبد الله بن كثير  أنه سمع  مجاهدا  يقول مثل قول عطاء  ، فقال مجاهد   : حجتهم ، قولهم : رجعت إلى قبلتنا!  [ ص: 204 ] 
فقد أبان تأويل من ذكرنا تأويله من أهل التأويل قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " ، عن صحة ما قلنا في تأويله ، وأنه استثناء على معنى الاستثناء المعروف ، الذي ثبت فيهم لما بعد حرف الاستثناء ما كان منفيا عما قبله . كما قول القائل "ما سار من الناس أحد إلا أخوك " ، إثبات للأخ من السير ما هو منفي عن كل أحد من الناس . فكذلك قوله : "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " ، نفى عن أن يكون لأحد خصومة وجدل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوى باطل عليه وعلى أصحابه ، بسبب توجههم في صلاتهم قبل الكعبة   - إلا الذين ظلموا أنفسهم من قريش ، فإن لهم قبلهم خصومة ودعوى باطلا بأن يقولوا : إنما توجهتم إلينا وإلى قبلتنا ، لأنا كنا أهدى منكم سبيلا وأنكم كنتم بتوجهكم نحو بيت المقدس  على ضلال وباطل . 
وإذ كان ذلك معنى الآية بإجماع الحجة من أهل التأويل ، فبين خطأ قول من زعم أن معنى قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " : ولا الذين ظلموا منهم ، وأن "إلا " بمعنى "الواو " . لأن ذلك لو كان معناه ، لكان النفي الأول عن جميع الناس - أن يكون لهم حجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تحولهم نحو الكعبة  بوجوههم - مبينا عن المعنى المراد ، ولم يكن في ذكر قوله بعد ذلك : "إلا الذين ظلموا منهم " إلا التلبيس الذي يتعالى عن أن يضاف إليه أو يوصف به . 
هذا مع خروج معنى الكلام إذا وجهت "إلا " إلى معنى "الواو " ، ومعنى  [ ص: 205 ] العطف من كلام العرب . وذلك أنه غير موجودة "إلا " في شيء من كلامها بمعنى "الواو " ، إلا مع استثناء سابق قد تقدمها . كقول القائل : "سار القوم إلا عمرا إلا أخاك " ، بمعنى : إلا عمرا وأخاك ، فتكون "إلا " حينئذ مؤدية عما تؤدي عنه "الواو " ، لتعلق "إلا " الثانية ب "إلا " الأولى . ويجمع فيها أيضا بين "إلا " و"الواو " فيقال : "سار القوم إلا عمرا وإلا أخاك " ، فتحذف إحداهما ، فتنوب الأخرى عنها ، فيقال : "سار القوم إلا عمرا وأخاك - أو إلا عمرا إلا أخاك " ، لما وصفنا قبل . 
وإذ كان ذلك كذلك ، فغير جائز لمدع من الناس أن يدعي أن "إلا " في هذا الموضع بمعنى "الواو " التي تأتي بمعنى العطف . 
وواضح فساد قول من زعم أن معنى ذلك : إلا الذين ظلموا منهم ، فإنهم لا حجة لهم ، فلا تخشوهم . كقول القائل في الكلام : "الناس كلهم لك حامدون إلا الظالم [ لك ] المعتدي عليك " ، فإن ذلك لا يعتد بعداونه ولا بتركه الحمد ، لموضع العداوة . وكذلك الظالم لا حجة له ، وقد سمي ظالما لإجماع جميع أهل التأويل على تخطئة ما ادعى من التأويل في ذلك . وكفى شاهدا على خطأ مقالته إجماعهم على تخطئتها . 
وظاهر بطول قول من زعم : أن "الذين ظلموا " هاهنا ، ناس من العرب  [ ص: 206 ] كانوا يهودا ونصارى ، فكانوا يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأما سائر العرب ، فلم تكن لهم حجة ، وكانت حجة من يحتج منكسرة . لأنك تقول لمن تريد أن تكسر عليه حجته : "إن لك علي حجة ولكنها منكسرة ، وإنك لتحتج بلا حجة ، وحجتك ضعيفة " . ووجه معنى : "إلا الذين ظلموا منهم " إلى معنى : إلا الذين ظلموا منهم ، من أهل الكتاب ، فإن لهم عليكم حجة واهية أو حجة ضعيفة . 
ووهي قول من قال : "إلا " في هذا الموضع بمعنى "لكن " . 
وضعف قول من زعم أنه ابتداء بمعنى : إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم . 
لأن تأويل أهل التأويل جاء في ذلك بأن ذلك من الله عز وجل خبر عن الذين ظلموا منهم : أنهم يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما قد ذكرنا ، ولم يقصد في ذلك إلى الخبر عن صفة حجتهم بالضعف ولا بالقوة - وإن كانت ضعيفة لأنها باطلة - وإنما قصد فيه الإثبات للذين ظلموا ، ما قد نفى عن الذين قبل حرف الاستثناء من الصفة . 
2307 - حدثني المثنى  قال : حدثنا إسحاق  قال : حدثنا ابن أبي جعفر  ، عن أبيه قال : قال الربيع   : إن يهوديا خاصم أبا العالية  فقال : إن موسى  عليه السلام كان يصلي إلى صخرة بيت المقدس   . فقال أبو العالية   : كان يصلي عند الصخرة إلى البيت الحرام   . قال : قال : فبيني وبينك مسجد صالح ، فإنه نحته من الجبل . قال أبو العالية   : قد صليت فيه وقبلته إلى البيت الحرام   . قال الربيع   : وأخبرني أبو العالية  أنه مر على مسجد  ذي القرنين ،  وقبلته إلى الكعبة   . 
وأما قوله : "فلا تخشوهم واخشوني " ، يعني : فلا تخشوا هؤلاء الذين وصفت لكم أمرهم من الظلمة في حجتهم وجدالهم وقولهم ما يقولون في أن محمدا  صلى  [ ص: 207 ] الله عليه وسلم قد رجع إلى قبلتنا ، وسيرجع إلى ديننا! - أو أن يقدروا لكم على ضر في دينكم أو صدكم عما هداكم الله تعالى ذكره له من الحق ، ولكن اخشوني ، فخافوا عقابي ، في خلافكم أمري إن خالفتموه . 
وذلك من الله جل ثناؤه تقدم إلى عباده المؤمنين ، بالحض على لزوم قبلتهم والصلاة إليها ، وبالنهي عن التوجه إلى غيرها . يقول جل ثناؤه : واخشوني أيها المؤمنون ، في ترك طاعتي فيما أمرتكم به من الصلاة شطر المسجد الحرام   . 
وقد حكي عن  السدي  في ذلك ما : - 
2308 - حدثني موسى بن هارون  قال : حدثنا عمرو بن حماد  قال : حدثنا أسباط ،  عن  السدي   : "فلا تخشوهم واخشوني " ، يقول : لا تخشوا أن أردكم في دينهم 
				
						
						
