القول في تأويل قوله تعالى : ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ( 46 ) إن المجرمين في ضلال وسعر ( 47 ) يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر ( 48 ) إنا كل شيء خلقناه بقدر ( 49 ) )
يقول - تعالى ذكره - : ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من أنهم لا يبعثون بعد مماتهم ( بل الساعة موعدهم ) للبعث والعقاب ( والساعة أدهى وأمر ) عليهم من الهزيمة التي يهزمونها عند التقائهم مع المؤمنين ببدر .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عمرو بن مرة ، عن قال : إن هذه الآية نزلت بهلاك : إنما موعدهم الساعة ، ثم قرأ ( شهر بن حوشب أكفاركم خير من أولئكم ) . . . إلى قوله ( والساعة أدهى وأمر ) .
وقوله ( إن المجرمين في ضلال وسعر ) يقول - تعالى ذكره - : إن المجرمين في ذهاب عن الحق ، وأخذ على غير هدى ( وسعر ) يقول : في احتراق من شدة العناء والنصب في الباطل . [ ص: 604 ]
كما حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله ( في ضلال وسعر ) قال : في عناء .
وقوله ( يوم يسحبون في النار على وجوههم ) يقول - تعالى ذكره - : يوم . وقد تأول بعضهم قوله ( يسحب هؤلاء المجرمون في النار على وجوههم في النار على وجوههم ) إلى النار . وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله ( يوم يسحبون إلى النار على وجوههم ) .
وقوله ( ذوقوا مس سقر ) يقول - تعالى ذكره - : يوم يسحبون في النار على وجوههم ، يقال لهم : ذوقوا مس سقر ، وترك ذكر " يقال لهم " استغناء بدلالة الكلام عليه من ذكره .
فإن قال قائل : كيف يذاق مس سقر ، أوله طعم فيذاق ؟ فإن ذلك مختلف فيه . فقال بعضهم : قيل ذلك كذلك على مجاز الكلام ، كما يقال : كيف وجدت طعم الضرب وهو مجاز ؟ وقال آخر : ذلك كما يقال : وجدت مس الحمى يراد به : أول ما نالني منها ، وكذلك وجدت طعم عفوك . وأما " سقر " فإنها اسم باب من أبواب جهنم وترك إجراؤها ؛ لأنها اسم لمؤنث معرفة .
وقوله ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) يقول - تعالى ذكره - : إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدرناه وقضيناه . وفي هذا بيان أن الله - جل ثناؤه - توعد هؤلاء المجرمين على تكذيبهم في القدر مع كفرهم به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني قال : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ابن وهب قال : ثنا ، عن هشام بن سعد أبي ثابت ، عن إبراهيم بن محمد ، عن أبيه ، عن ابن [ ص: 605 ] عباس أنه كان يقول : إني أجد في كتاب الله قوما يسحبون في النار على وجوههم ، يقال لهم ( ذوقوا مس سقر ) لأنهم كانوا يكذبون بالقدر ، وإني لا أراهم ، فلا أدري أشيء كان قبلنا ، أم شيء فيما بقي ؟ .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا : ثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : ثنا سفيان ، عن زياد بن إسماعيل السهمي ، عن ، عن محمد بن عباد بن جعفر أن مشركي أبي هريرة قريش خاصمت النبي - صلى الله عليه وسلم - في القدر ، فأنزل الله ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى وأبو كريب قالوا : ثنا قال : ثنا وكيع بن الجراح سفيان ، عن زياد بن إسماعيل السهمي ، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي ، عن قال : جاء مشركو أبي هريرة قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاصمونه في القدر ، فنزلت ( إن المجرمين في ضلال وسعر ) .
حدثنا قال : ثنا ابن المثنى أبو عاصم ، عن سفيان ، عن زياد بن إسماعيل السهمي ، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي ، عن ، بنحوه . أبي هريرة
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا هشيم قال : أخبرنا حصين ، عن سعد بن عبيدة ، عن قال : أبي عبد الرحمن السلمي إنا كل شيء خلقناه بقدر ) قال رجل : يا رسول الله ففيم العمل ؟ أفي شيء نستأنفه ، أو في شيء قد فرغ منه ؟ قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، سنيسره لليسرى ، وسنيسره للعسرى " . ولما نزلت هذه الآية (
حدثنا ابن أبي الشوارب قال : ثنا عبد الواحد بن زياد قال : ثنا خصيف قال : سمعت يقول : لما تكلم الناس في القدر نظرت ، فإذا هذه الآية أنزلت فيهم ( محمد بن كعب القرظي إن المجرمين في ضلال وسعر ) . . . إلى قوله ( خلقناه بقدر ) . [ ص: 606 ]
حدثنا ابن بشار قال : ثنا أبو عاصم قالا : ثنا ويزيد بن هارون سفيان ، عن سالم ، عن محمد بن كعب قال : ما نزلت هذه الآية إلا تعييرا لأهل القدر ( ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر ) .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن سالم بن أبي حفصة ، عن ( محمد بن كعب القرظي ذوقوا مس سقر ) قال : نزلت تعييرا لأهل القدر .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن زياد بن إسماعيل السهمي ، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي ، عن قال : جاء مشركو أبي هريرة قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاصمونه في القدر ، فنزلت ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) .
قال : ثنا مهران ، عن حازم ، عن أسامة ، عن مثله . محمد بن كعب القرظي
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) قال : خلق الله الخلق كلهم بقدر ، وخلق لهم الخير والشر بقدر ، فخير الخير السعادة ، وشر الشر الشقاء ، بئس الشر الشقاء .
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله ( كل شيء خلقناه بقدر ) فقال بعض نحويي البصرة : نصب " كل شيء " في لغة من قال : عبد الله ضربته . قال : وهي في كلام العرب كثير . قال : وقد رفعت " كل " في لغة من رفع ، ورفعت على وجه آخر . قال ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) فجعل خلقناه من صفة الشيء . وقال غيره : إنما نصب " كل " ؛ لأن قوله خلقناه فعل لقوله ( إنا ) ، وهو أولى بالتقديم إليه من المفعول ، فلذلك اختير النصب ، وليس قيل " عبد الله " في قوله : عبد الله ضربته شيء هو أولى بالفعل ، وكذلك إنا طعامك أكلناه ، الاختيار النصب لأنك تريد : إنا أكلنا طعامك " الأكل " أولى [ ص: 607 ] بأنا من الطعام . قال : وأما قول من قال : خلقناه وصف للشيء فبعيد ؛ لأن المعنى : إنا خلقناه كل شيء بقدر ، وهذا القول الثاني أولى بالصواب عندي من الأول للعلل التي ذكرت لصاحبها .