يقول - تعالى ذكره - : وكنتم أيها الناس أنواعا ثلاثة وضروبا .
كما حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( وكنتم أزواجا ثلاثة ) قال : منازل الناس يوم القيامة . [ ص: 95 ]
وقوله : ( فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ) وهذا بيان من الله عن الأزواج الثلاثة . يقول - جل ثناؤه - : وكنتم أزواجا ثلاثة : أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة ، والسابقون ، فجعل الخبر عنهم مغنيا عن البيان عنهم - على الوجه الذي ذكرنا - لدلالة الكلام على معناه . فقال : ( فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ) يعجب نبيه محمدا منهم . وقال : ( ما أصحاب اليمين ) الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ، أي شيء أصحاب اليمين ( وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ) يقول - تعالى ذكره - : وأصحاب الشمال الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ، والعرب تسمي اليد اليسرى : الشؤمى ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
فأنحى على شؤمى يديه فذادها بأظمأ من فرع الذوابة أسحما
وقوله : ( والسابقون السابقون ) وهم الزوج الثالث وهم الذين سبقوا إلى الإيمان بالله ورسوله ، وهم المهاجرون الأولون .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا قال : ثنا يحيى بن واضح عبيد الله ، يعني العتكي ، عن عثمان بن عبد الله بن سراقة قوله : ( وكنتم أزواجا ثلاثة ) قال : اثنان في الجنة وواحد في النار ، يقول : الحور العين للسابقين ، والعرب الأتراب [ ص: 96 ] لأصحاب اليمين .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( وكنتم أزواجا ثلاثة ) قال : منازل الناس يوم القيامة .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا هوذة قال : ثنا عوف ، الحسن في قوله : ( وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون ) . . . إلى ( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى بين أصحاب اليمين من الأمم السابقة ، وبين أصحاب اليمين من هذه الأمة ، وكان السابقون من الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة " . عن
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ) : أي ماذا لهم ، وماذا أعد لهم ؟ ( وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ) : أي ماذا لهم وماذا أعد لهم ؟ ( والسابقون السابقون ) : أي من كل أمة .
حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول : وجدت الهوى ثلاثة أثلاث ، فالمرء يجعل هواه علمه ، فيديل هواه على علمه ، ويقهر هواه علمه ، حتى إن العلم مع الهوى قبيح ذليل والعلم ذليل ، والهوى غالب قاهر ، فالذي قد جعل الهوى والعلم في قلبه فهذا من أزواج النار ، وإذا كان ممن يريد الله به خيرا استفاق واستنبه ، فإذا هو عون للعلم على الهوى حتى يديل الله العلم على الهوى ، فإذا حسنت حال المؤمن ، واستقامت طريقه كان الهوى ذليلا وكان العلم غالبا قاهرا . فإذا كان ممن يريد الله به خيرا ، ختم عمله بإدالة العلم ، فتوفاه - حين توفاه - وعلمه هو القاهر ، وهو العامل به ، وهواه الذليل القبيح ، ليس له في ذلك نصيب ولا فعل . والثالث : الذي قبح الله هواه بعلمه ، فلا يطمع هواه أن يغلب العلم ، ولا أن يكون معه نصف ولا نصيب فهذا الثالث ، وهو خيرهم كلهم ، وهو الذي قال الله - عز وجل - في [ ص: 97 ] سورة الواقعة : ( وكنتم أزواجا ثلاثة ) قال : فزوجان في الجنة ، وزوج في النار قال : والسابق الذي يكون العلم غالبا للهوى ، والآخر : الذي ختم الله بإدالة العلم على الهوى ، فهذان زوجان في الجنة . والآخر : هواه قاهر لعلمه ، فهذا زوج النار .
واختلف أهل العربية في الرافع أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ، فقال بعض نحويي البصرة : خبر قوله : ( فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ) قال : ويقول زيد : ما زيد ، يريد : زيد شديد . وقال غيره : قوله : ( ما أصحاب الميمنة ) لا تكون الجملة خبره ، ولكن الثاني عائد على الأول ، وهو تعجب ، فكأنه قال : أصحاب الميمنة ما هم ، والقارعة ما هي ، والحاقة ما هي ؟ فكان الثاني عائد الأول ، وكان تعجبا ، والتعجب بمعنى الخبر ، ولو كان استفهاما لم يجز أن يكون خبرا للابتداء ؛ لأن الاستفهام لا يكون خبرا ، والخبر لا يكون استفهاما ، والتعجب يكون خبرا ، فكان خبرا للابتداء . وقوله : زيد وما زيد ، لا يكون إلا من كلامين ؛ لأنه لا تدخل الواو في خبر الابتداء ، كأنه قال : هذا زيد وما هو : أي ما أشده وما أعلمه .
واختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله : ( والسابقون السابقون ) فقال بعضهم : هم الذين صلوا للقبلتين .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن خارجة ، عن قرة ، عن ابن سيرين ( والسابقون السابقون ) الذين صلوا للقبلتين .
وقال آخرون في ذلك بما حدثني عبد الكريم بن أبي عمير قال : ثنا قال : ثنا الوليد بن مسلم أبو عمرو قال : ثنا عثمان بن أبي سودة قال ( والسابقون السابقون ) أولهم رواحا إلى المساجد ، وأسرعهم خفوقا في سبيل الله .
والرفع في السابقين من وجهين : أحدهما : أن يكون الأول مرفوعا [ ص: 98 ] بالثاني ، ويكون معنى الكلام حينئذ والسابقون الأولون كما يقال : السابق الأول . والثاني أن يكون مرفوعا بأولئك المقربون يقول - جل ثناؤه - : أولئك الذين يقربهم الله منه يوم القيامة إذا أدخلهم الجنة .
وقوله : ( في جنات النعيم ) يقول : في بساتين النعيم الدائم .