القول في تأويل قوله تعالى : ( أفبهذا الحديث أنتم مدهنون ( 81 ) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ( 82 ) فلولا إذا بلغت الحلقوم ( 83 ) وأنتم حينئذ تنظرون ( 84 ) ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ( 85 ) )
يقول - تعالى ذكره - : أفبهذا القرآن الذي أنبأتكم خبره ، وقصصت عليكم [ ص: 153 ] أمره - أيها الناس - أنتم تلينون القول للمكذبين به ، ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر .
واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم في ذلك نحو قولنا فيه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( أفبهذا الحديث أنتم مدهنون ) قال : تريدون أن تمالئوهم فيه ، وتركنوا إليهم .
وقال آخرون : بل معناه : أفبهذا الحديث أنتم مكذبون .
ذكر من قال ذلك
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس قوله : ( أفبهذا الحديث أنتم مدهنون ) يقول : مكذبون غير مصدقين .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( أنتم مدهنون ) يقول : مكذبون .
وقوله : ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) يقول : وتجعلون شكر الله على رزقه إياكم التكذيب ، وذلك كقول القائل الآخر : جعلت إحساني إليك إساءة منك إلي . بمعنى : جعلت شكر إحساني أو ثواب إحساني إليك إساءة منك إلي .
وقد ذكر عن الهيثم بن عدي : أن من لغة أزد شنوءة : ما رزق فلان : بمعنى ما شكر .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأمل على اختلاف فيه منهم . [ ص: 154 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : ثنا يحيى قال : ثنا سفيان قال : ثني عبد الأعلى الثعلبي ، عن ، عن أبي عبد الرحمن السلمي علي - رضي الله عنه - ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) قال : شكركم .
حدثنا قال : ثنا ابن المثنى ، عن عبيد الله بن موسى إسرائيل ، عن عبد الأعلى الثعلبي ، عن ، أبي عبد الرحمن السلمي علي رفعه ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) قال : شكركم تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا ، وبنجم كذا وكذا . عن
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا يحيى بن أبي بكر ، عن إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي ، وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) قال : شكركم أنكم تكذبون قال : " . ويقولون مطرنا بنوء كذا وكذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " (
حدثنا ابن بشار قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ما مطر قوم قط إلا أصبح بعضهم كافرا ، يقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا ، وقرأ ابن عباس ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) .
حدثنا أبو كريب قال : ثنا ابن عطية قال : ثنا معاذ بن سليمان ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) ثم قال : ما مطر الناس ليلة قط ، إلا أصبح بعض الناس مشركين يقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا . قال وقال : وتجعلون شكركم أنكم تكذبون .
حدثني يعقوب قال : ثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ( وتجعلون رزقكم ) يقول : شكركم على ما أنزلت عليكم من الغيث والرحمة تقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا . قال : فكان ذلك منهم كفرا بما أنعم عليهم . [ ص: 155 ]
حدثني يونس قال : أخبرنا سفيان ، عن إسماعيل بن أمية قال : أحسبه أو غيره " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا ومطروا يقول : مطرنا ببعض عثانين الأسد ، فقال : كذبت بل هو رزق الله " .
حدثني يونس قال : أخبرنا سفيان ، عن محمد بن إسحاق ، عن ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أبي سلمة ، عن ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبي هريرة " . قال إن الله ليصبح القوم بالنعمة ، أو يمسيهم بها ، فيصبح بها قوم كافرين يقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا محمد : فذكرت هذا الحديث فقال : ونحن قد سمعنا من لسعيد بن المسيب . وقد أخبرني من شهد أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو يستسقي فلما استسقى التفت إلى عمر بن الخطاب العباس فقال : يا عباس يا عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كم بقي من نوء الثريا ؟ فقال : العلماء بها يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعا قال : فما مضت سابعة حتى مطروا .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن عبد الأعلى ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) قال : كان يقرؤها " وتجعلون شكركم أنكم تكذبون " يقول : جعلتم رزق الله بنوء النجم ، وكان رزقهم في أنفسهم بالأنواء أنواء المطر إذا نزل عليهم المطر ، قالوا : رزقنا بنوء كذا وكذا ، وإذا أمسك عنهم كذبوا ، فذلك تكذيبهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن في قوله : ( عطاء الخراساني وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) قال : كان ناس يمطرون فيقولون : مطرنا بنوء كذا ، مطرنا بنوء كذا .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) قال : قولهم [ ص: 156 ] في الأنواء : مطرنا بنوء كذا ونوء كذا ، يقول : قولوا هو من عند الله وهو رزقه .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) يقول : جعل الله رزقكم في السماء ، وأنتم تجعلونه في الأنواء .
حدثني أبو صالح الصراري قال : ثنا أبو جابر محمد بن عبد الملك الأزدي قال : ثنا جعفر بن الزبير ، عن القاسم بن أبي أمامة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) " يقول قائل : مطرنا بنجم كذا وكذا . ما مطر قوم من ليلة إلا أصبح قوم بها كافرين ، ثم قال : (
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وتجعلون حظكم منه التكذيب .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون . ) أما الحسن فكان يقول : بئسما أخذ قوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب به .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر قال : قال الحسن في قوله : ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) خسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب .
وقوله : ( فلولا إذا بلغت الحلقوم ) يقول - تعالى ذكره - : فهلا إذا بلغت النفوس عند خروجها من أجسادكم أيها الناس حلاقيمكم ( وأنتم حينئذ تنظرون ) يقول ومن حضرهم منكم من أهليهم حينئذ إليهم ينظر ، وخرج الخطاب ها هنا عاما للجميع ، والمراد به : من حضر الميت من أهله وغيرهم وذلك معروف من كلام العرب وهو أن يخاطب الجماعة بالفعل ، كأنهم أهله [ ص: 157 ] وأصحابه ، والمراد به بعضهم غائبا كان أو شاهدا . فيقول : قتلتم فلانا ، والقاتل منهم واحد ، إما غائب ، وإما شاهد . وقد بينا نظائر ذلك في مواضع كثيرة من كتابنا هذا .
يقول ( ونحن أقرب إليه منكم ) يقول : ورسلنا الذين يقبضون روحه أقرب إليه منكم ، ( ولكن لا تبصرون ) .
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : قيل ( فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ) كأنه قد سمع منهم - والله أعلم - إنا نقدر على أن لا نموت . فقال ( فلولا إذا بلغت الحلقوم ) ، ثم قال ( فلولا إن كنتم غير مدينين ) أي غير مجزيين ترجعون تلك النفوس وأنتم ترون كيف تخرج عند ذلك إن كنتم صادقين بأنكم تمتنعون من الموت .