يقول - تعالى ذكره - : هو الفوز العظيم في يوم يقول المنافقون والمنافقات - واليوم من صلة الفوز - للذين آمنوا بالله ورسله : انظرونا .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( انظرونا ) فقرأت ذلك عامة قراء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة : ( انظرونا ) موصولة بمعنى انتظرونا . وقرأته عامة قراء الكوفة : " أنظرونا " مقطوعة الألف من أنظرت بمعنى : أخرونا . وذكر الفراء أن العرب تقول : أنظرني وهم يريدون : انتظرني قليلا ، وأنشد في ذلك بيت عمرو بن كلثوم : [ ص: 181 ]
أبا هند فلا تعجل علينا وأنظرنا نخبرك اليقينا
قال : فمعنى هذا : انتظرنا قليلا نخبرك ؛ لأنه ليس ها هنا تأخير ، إنما هو استماع كقولك للرجل : اسمع مني حتى أخبرك .
والصواب من القراءة في ذلك عندي الوصل ؛ لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب إذا أريد به انتظرنا ، وليس للتأخير في هذا الموضع معنى . فيقال : أنظرونا بفتح الألف وهمزها .
وقوله : ( نقتبس من نوركم ) يقول : نستصبح من نوركم ، والقبس : الشعلة .
وقوله : ( قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) يقول - جل ثناؤه - : فيجابون بأن يقال لهم : ارجعوا من حيث جئتم ، واطلبوا لأنفسكم هنالك نورا ، فإنه لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 182 ]
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات ) إلى قوله : ( وبئس المصير ) قال ابن عباس : بينما الناس في ظلمة ، إذ بعث الله نورا ، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه ، وكان النور دليلا من الله إلى الجنة فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا ، تبعوهم ، فأظلم الله على المنافقين ، فقالوا حينئذ : انظرونا نقتبس من نوركم ، فإنا كنا معكم في الدنيا . قال المؤمنون : ارجعوا من حيث جئتم من الظلمة ، فالتمسوا هنالك النور .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا ) الآية . كان ابن عباس يقول : بينما الناس في ظلمة ، ثم ذكر نحوه .
وقوله : ( فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) يقول - تعالى ذكره - : فضرب الله بين المؤمنين والمنافقين بسور ، وهو حاجز بين أهل الجنة وأهل النار .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( بسور له باب ) قال : كالحجاب في الأعراف .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( فضرب بينهم بسور له باب ) السور : حائط بين الجنة والنار . [ ص: 183 ]
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( فضرب بينهم بسور له باب ) قال : هذا السور الذي قال الله ( وبينهما حجاب ) .
وقد قيل : إن ذلك السور ببيت المقدس عند وادي جهنم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا الحسن بن بلال قال : ثنا حماد قال : أخبرنا أبو سنان قال : كنت مع ، عند علي بن عبد الله بن عباس وادي جهنم ، فحدث عن أبيه قال ( فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) فقال : هذا موضع السور عند وادي جهنم .
حدثني إبراهيم بن عطية بن رديح بن عطية قال : ثني عمي محمد بن رديح بن عطية ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن أبي العوام ، عن عبادة بن الصامت ، أنه كان يقول : ( باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) قال : هذا باب الرحمة .
حدثنا ابن البرقي قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عطية بن قيس ، عن أبي العوام مؤذن بيت المقدس قال : سمعت يقول : إن السور الذي ذكره الله في القرآن : ( عبد الله بن عمرو بن العاص فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) هو السور الشرقي ، باطنه المسجد ، وظاهره وادي جهنم .
حدثني محمد بن عوف قال : ثنا أبو المغيرة قال : ثنا صفوان قال : ثنا شريح أن كعبا كان يقول في الباب الذي في بيت المقدس : إنه الباب الذي قال الله ( فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) .
وقوله : ( له باب باطنه فيه الرحمة ) يقول - تعالى ذكره - : لذلك السور باب [ ص: 184 ] باطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قبل ذلك الظاهر العذاب : يعني النار .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وظاهره من قبله العذاب ) : أي النار .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( باطنه فيه الرحمة ) قال : الجنة وما فيها .
وقوله : ( ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ) يقول - تعالى ذكره - : ينادي المنافقون المؤمنين حين حجز بينهم بالسور ، فبقوا في الظلمة والعذاب ، وصار المؤمنون في الجنة ، ألم نكن معكم في الدنيا نصلي ونصوم ، ونناكحكم ونوارثكم ؟ قالوا : بلى . يقول : قال المؤمنون : بلى ، بل كنتم كذلك ، ولكنكم فتنتم أنفسكم ، فنافقتم ، وفتنتهم أنفسهم في هذا الموضع كانت النفاق .
وكذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( فتنتم أنفسكم ) قال : النفاق . وكان المنافقون مع المؤمنين أحياء يناكحونهم ، ويغشونهم ، ويعاشرونهم ، وكانوا معهم أمواتا ، ويعطون النور جميعا يوم القيامة ، فيطفأ النور من المنافقين إذا بلغوا السور ، ويماز بينهم حينئذ .
وقوله : ( وتربصتم ) يقول : وتلبثتم بالإيمان ، ودافعتم بالإقرار بالله ورسوله . [ ص: 185 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( وتربصتم ) قال : بالإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرأ : ( فتربصوا إنا معكم متربصون )
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وتربصتم ) يقول : تربصوا بالحق وأهله . وقوله : ( وارتبتم ) يقول : وشككتم في توحيد الله ، وفي نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
كما حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( وارتبتم ) : شكوا .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وارتبتم ) : كانوا في شك من الله .
وقوله : ( وغرتكم الأماني ) يقول : وخدعتكم أماني نفوسكم ، فصدتكم عن سبيل الله ، وأضلتكم . ( حتى جاء أمر الله ) يقول : حتى جاء قضاء الله بمناياكم ، فاجتاحتكم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله ) : كانوا على خدعة من الشيطان - والله ما زالوا عليها - حتى قذفهم الله في النار .
وقوله : ( وغركم بالله الغرور ) يقول : وخدعكم بالله الشيطان ، فأطمعكم بالنجاة من عقوبته ، والسلامة من عذابه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 186 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال ( الغرور ) : أي الشيطان .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وغركم بالله الغرور ) : أي الشيطان .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( وغركم بالله الغرور ) : الشيطان .