القول في تأويل قوله تعالى : ( وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ( 16 ) )
يقول - تعالى ذكره - ( ألم يأن للذين آمنوا ) : ألم يحن للذين صدقوا الله ورسوله أن تلين قلوبهم لذكر الله ، فتخضع قلوبهم له ، ولما نزل من الحق ، وهو هذا القرآن الذي نزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) قال : تطيع قلوبهم .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا قال : ثنا يحيى بن واضح الحسين ، عن [ ص: 188 ] يزيد ، عن عكرمة ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله . . . ) الآية . ذكر لنا أن شداد بن أوس كان يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن أول ما يرفع من الناس الخشوع " .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : كان شداد بن أوس يقول : أول ما يرفع من الناس الخشوع .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( وما نزل من الحق ) ، فقرأته عامة القراء - غير شيبة ونافع - بالتشديد : نزل ، وقرأه شيبة ونافع : وما نزل بالتخفيف ، وبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب ، لتقارب معنييهما .
وقوله : ( ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد ) يقول - تعالى ذكره - : ألم يأن لهم أن لا يكونوا - يعني الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم - ( كالذين أوتوا الكتاب من قبل ) يعني من بني إسرائيل ، ويعني بالكتاب الذي أوتوه من قبلهم : التوراة والإنجيل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبى معشر ، عن إبراهيم قال : جاء عتريس بن عرقوب إلى ابن مسعود فقال : يا عبد الله هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر . فقال عبد الله : هلك من لم يعرف قلبه معروفا ، ولم ينكر قلبه منكرا ، إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد ، وقست قلوبهم اخترعوا كتابا من بين أيديهم وأرجلهم ، استهوته قلوبهم ، واستحلته ألسنتهم ، وقالوا : نعرض بني إسرائيل على هذا الكتاب ، [ ص: 189 ] فمن آمن به تركناه ، ومن كفر به قتلناه . قال : فجعل رجل منهم كتاب الله في قرن ، ثم جعل القرن بين ثندوتيه فلما قيل له : أتؤمن بهذا ؟ قال : آمنت به ، ويومئ إلى القرن الذي بين ثندوتيه ، ومالي لا أومن بهذا الكتاب ، فمن خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن .
ويعني بقوله : ( فطال عليهم الأمد ) : ما بينهم وبين موسى - صلى الله عليه وسلم - وذلك الأمد الزمان .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبى نجيح ، عن مجاهد قوله : ( الأمد ) قال : الدهر .
وقوله : ( فقست قلوبهم ) عن الخيرات ، واشتدت على السكون إلى معاصي الله . ( وكثير منهم فاسقون ) يقول - جل ثناؤه - : وكثير من هؤلاء الذين أوتوا الكتاب من قبل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فاسقون .