يقول - تعالى ذكره - : ( والذين تبوءوا الدار والإيمان ) يقول : اتخذوا المدينة مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فابتنوها منازل ، ( والإيمان ) بالله ورسوله ( من قبلهم ) يعني : من قبل المهاجرين ، ( يحبون من هاجر إليهم ) : يحبون من ترك منزله ، وانتقل إليهم من غيرهم ، وعني بذلك الأنصار يحبون المهاجرين .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ) قال : الأنصار ، نعت - قال محمد بن عمرو - : سفاطة أنفسهم ، - وقال الحارث - سخاوة أنفسهم عندما روى عنهم من ذلك ، وإيثارهم إياهم . ولم يصب الأنصار من ذلك الفيء شيء .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) يقول : مما أعطوا إخوانهم ، هذا الحي من الأنصار أسلموا في ديارهم ، فابتنوا المساجد قبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأحسن الله عليهم الثناء في ذلك ، وهاتان الطائفتان الأولتان من هذه الآية أخذتا بفضلهما ، ومضتا على مهلهما ، وأثبت الله حظهما في الفيء .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله - عز وجل - : ( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون ) قال : هؤلاء الأنصار يحبون من هاجر إليهم من المهاجرين .
وقوله : ( ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) يقول - جل ثناؤه - : ولا يجد الذين تبوءوا الدار من قبلهم ، وهم الأنصار في صدورهم حاجة ، يعني [ ص: 283 ] حسدا مما أوتوا ، يعني مما أوتي المهاجرون من الفيء ، وذلك لما ذكر لنا من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم أموال بني النضير بين المهاجرين الأولين دون الأنصار ، إلا رجلين من الأنصار ، أعطاهما لفقرهما ، وإنما فعل ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، أنه حدث بني النضير خلوا الأموال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانت النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، يضعها حيث يشاء ، فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المهاجرين الأولين دون الأنصار ، إلا أن سهل بن حنيف ذكرا فقرا ، فأعطاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا دجانة سماك بن خرشة . أن
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) المهاجرون . قال : وتكلم في ذلك : ( يعني أموال بني النضير ) بعض من تكلم من الأنصار ، فعاتبهم الله - عز وجل - في ذلك فقال : ( وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ) . قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم : " إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم " فقالوا : أموالنا بينهم قطائع ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أو غير ذلك ؟ " قالوا : وما ذلك يا رسول الله ؟ قال : " هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر " ، فقالوا : نعم يا رسول الله .
وبنحو الذي قلنا في قوله : ( ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) قال أهل التأويل . [ ص: 284 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا قال : ثنا محمد بن المثنى سليمان أبو داود قال : ثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن في قوله : ( ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) قال : الحسد .
قال : ثنا عبد الصمد قال : ثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ( حاجة في صدورهم ) قال : حسدا في صدورهم .
حدثني يعقوب قال : ثنا قال : أخبرنا ابن علية أبو رجاء ، عن الحسن مثله .
وقوله : ( ويؤثرون على أنفسهم ) يقول - تعالى ذكره - : وهو يصف الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين ( ويؤثرون على أنفسهم ) يقول : ويعطون المهاجرين أموالهم إيثارا لهم بها على أنفسهم ، ( ولو كان بهم خصاصة ) يقول : ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم ، والخصاصة : مصدر ، وهي أيضا اسم . وهو كل ما تخللته ببصرك كالكوة والفرجة في الحائط ، تجمع : خصاصات وخصاص ، كما قال الراجز :
قد علم المقاتلات هجا والناظرات من خصاص لمجا لأورينها دلجا أو منجا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب قال : ثنا ابن فضيل ، عن أبيه ، عن أبي حازم ، عن [ ص: 285 ] قال : أبي هريرة الأنصار يقال له أبو طلحة ، فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نومي الصبية ، وأطفئي المصباح وأريه بأنك تأكلين معه ، واتركيه لضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعلت فنزلت ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) . جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليضيفه ، فلم يكن عنده ما يضيفه ، فقال : " ألا رجل يضيف هذا رحمه الله ؟ " فقام رجل من
حدثنا أبو كريب قال : ثنا ، عن وكيع فضيل بن غزوان ، عن أبي حازم ، عن ، أبي هريرة الأنصار بات به ضيف ، فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : نومي الصبية وأطفئي المصباح ، وقربي للضيف ما عندك قال : فنزلت هذه الآية ( ومن يوق شح نفسه ) يقول - تعالى ذكره - : من وقاه الله شح نفسه ( أن رجلا من فأولئك هم المفلحون ) المخلدون في الجنة . والشح في كلام العرب : البخل ، ومنع الفضل من المال ، ومعه قول عمرو بن كلثوم :
ترى اللحز الشحيح إذا أمرت عليه لماله فيها مهينا
يعني بالشحيح البخيل ، يقال : إنه لشحيح بين الشح والشح ، وفيه شحة شديدة وشحاحة . وأما العلماء فإنهم يرون أن الشح في هذا الموضع إنما هو أكل أموال الناس بغير حق .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا قال : ثنا يحيى بن واضح المسعودي ، عن أشعث ، عن أبي الشعثاء ، عن أبيه قال : أتى رجل ابن مسعود فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت قال : وما ذاك ؟ قال : أسمع الله يقول : ( بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه ) وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء قال : ليس ذاك بالشح الذي ذكر الله في القرآن ، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما ، ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل .
حدثني يحيى بن إبراهيم قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن جامع ، عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى ، فقال يا عبد الله بن مسعود أبا عبد الرحمن ، إني أخشى أن تكون أصابتني هذه الآية ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) والله ما أعطي شيئا أستطيع منعه قال : ليس ذلك بالشح ، إنما الشح أن تأكل مال أخيك بغير حقه ، ولكن ذلك البخل .
حدثنا قال : ثنا محمد بن بشار يحيى وعبد الرحمن قالا : ثنا سفيان ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي الهياج الأسدي قال : كنت أطوف بالبيت ، فرأيت رجلا يقول : اللهم قني شح نفسي ، لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال : إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ، ولم أزن ، ولم أفعل شيئا ، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف .
حدثني محمد بن إسحاق قال : ثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي قال : ثنا إسماعيل بن عياش قال : ثنا مجمع بن جارية الأنصاري ، عن عمه يزيد بن جارية الأنصاري ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " برئ من الشح من أدى الزكاة ، وقرى الضيف ، وأعطى في النائبة "
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : ثنا زياد بن يونس أبو سلامة ، عن نافع بن عمر المكي ، عن ، عن ابن أبي مليكة عبد الله بن عمر قال : إن نجوت من ثلاث طمعت أن أنجو . قال ما هن أنبيك فيهن قال : أخرج المال العظيم فأخرجه ضرارا ، ثم أقول : أقرض ربي هذه الليلة ، ثم تعود نفسي فيه حتى أعيده من حيث أخرجته ، وإن نجوت [ ص: 287 ] من عبد الله بن صفوان شأن عثمان ، قال ابن صفوان : أما عثمان فقتل يوم قتل وأنت تحب قتله وترضاه ، فأنت ممن قتله ، وأما أنت فرجل لم يقك الله شح نفسك . قال : صدقت .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله - عز وجل - : ( ومن يوق شح نفسه ) قال : من وقي شح نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئا ، ولم يقربه ، ولم يدعه الشح أن يحبس من الحلال شيئا ، فهو من المفلحين ، كما قال الله - عز وجل - .
وحدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( ومن يوق شح نفسه ) قال : من لم يأخذ شيئا لشيء نهاه الله - عز وجل - عنه ، ولم يدعه الشح على أن يمنع شيئا من شيء أمره الله به ، فقد وقاه الله شح نفسه ، فهو من المفلحين .