القول في تأويل قوله تعالى : ( وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة    ( 9 ) فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية   ( 10 ) إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية   ( 11 ) لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية   ( 12 ) ) 
يقول تعالى ذكره : ( وجاء فرعون   ) مصر   . واختلفت القراء في قراءة قوله : ( ومن قبله   ) ، فقرأته عامة قراء المدينة  والكوفة  ومكة  خلا الكسائي   ( ومن قبله   ) بفتح القاف وسكون الباء ، بمعنى : وجاء من قبل فرعون  من الأمم المكذبة بآيات الله ، كقوم نوح  وعاد  وثمود  وقوم لوط   بالخطيئة . وقرأ ذلك عامة قراء البصرة  والكسائي   ( ومن قبله ) بكسر القاف وفتح الباء ، بمعنى : وجاء مع فرعون  من أهل بلده مصر  من القبط . 
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . 
وقوله : ( والمؤتفكات بالخاطئة   ) يقول : والقرى التي ائتفكت بأهلها فصار  [ ص: 576 ] عاليها سافلها ( بالخاطئة   ) يعني بالخطيئة . وكانت خطيئتها : إتيانها الذكران في أدبارهم . 
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( والمؤتفكات   ) قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا بشر ،  قال : ثنا يزيد ،  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة ،  قوله : ( وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات   ) ، قرية لوط . وفي بعض القراءات ( وجاء فرعون ومن معه ) . 
حدثني يونس ،  قال : أخبرنا ابن وهب ،  قال : قال ابن زيد ،  في قوله : ( وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة   ) قال : المؤتفكات : قوم لوط ،   ومدينتهم وزرعهم ، وفي قوله : ( والمؤتفكة أهوى   ) قال : أهواها من السماء : رمى بها من السماء; أوحى الله إلى جبريل  عليه السلام ، فاقتلعها من الأرض ، ربضها ومدينتها ، ثم هوى بها إلى السماء; ثم قلبهم إلى الأرض ، ثم أتبعهم الصخر حجارة ، وقرأ قول الله : ( حجارة من سجيل منضود مسومة   ) قال : المسومة : المعدة للعذاب . 
حدثني محمد بن سعد ،  قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ،  قوله : ( وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة   ) : يعني المكذبين  . 
حدثنا ابن عبد الأعلى ،  قال : ثنا ابن ثور ،  عن معمر ،  عن قتادة   ( والمؤتفكات   ) هم قوم لوط ،  ائتفكت بهم أرضهم  . 
وبما قلنا في قوله : ( بالخاطئة   ) قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني محمد بن عمرو ،  قال : ثنا أبو عاصم ،  قال : ثنا عيسى;  وحدثني الحارث ،  قال : ثنا الحسن ،  قال : ثنا ورقاء  جميعا عن ابن أبي نجيح ،  عن مجاهد   ( بالخاطئة   ) قال : الخطايا  . 
وقوله : ( فعصوا رسول ربهم   ) يقول جل ثناؤه : فعصى هؤلاء الذين ذكرهم الله ، وهم فرعون ومن قبله والمؤتفكات رسول ربهم . 
وقوله : ( فأخذهم أخذة رابية   ) يقول : فأخذهم ربهم بتكذيبهم رسله أخذة ، يعني أخذة زائدة شديدة نامية ، من قولهم : أربيت : إذا أخذ أكثر مما أعطى من الربا; يقال : أربيت فربا رباك ، والفضة والذهب قد ربوا . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .  [ ص: 577 ] 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني محمد بن عمرو ،  قال : ثنا أبو عاصم ،  قال : ثنا عيسى ،  وحدثني الحارث ،  قال : ثنا الحسن ،  قال : ثنا ورقاء  جميعا عن ابن أبي نجيح ،  عن مجاهد   ( أخذة رابية   ) قال : شديدة  . 
حدثني محمد بن سعد ،  قال : ثني أبي ، قال : ثنى عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ،  قوله : ( فأخذهم أخذة رابية   ) : يعني أخذة شديدة  . 
حدثني يونس ،  قال : أخبرنا ابن وهب ،  قال : قال ابن زيد  في قول الله : ( فأخذهم أخذة رابية   ) قال : كما يكون في الخير رابية ، كذلك يكون في الشر رابية ، قال : ربا عليهم : زاد عليهم ، وقرأ قول الله عز وجل : ( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب   ) وقرأ قول الله عز وجل : ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم   ) يقول : ربا لهؤلاء الخير ولهؤلاء الشر  . 
وقوله : ( إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية    ) يقول تعالى ذكره : إنا لما كثر الماء فتجاوز حده المعروف ، كان له ، وذلك زمن الطوفان . 
وقيل : إنه زاد فعلا فوق كل شيء بقدر خمس عشرة ذراعا . 
ذكر من قال ذلك ، ومن قال في قوله : ( طغى ) مثل قولنا : 
حدثنا ابن عبد الأعلى ،  قال : ثنا ابن ثور ،  عن معمر ،  عن قتادة   ( إنا لما طغى الماء   ) قال : بلغنا أنه طغى فوق كل شيء خمس عشرة ذراعا  . 
حدثنا بشر ،  قال : ثنا يزيد ،  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة ،  قوله : ( إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية   ) : ذاكم زمن نوح ،  طغى الماء على كل شيء خمس عشرة ذراعا بقدر كل شيء  . 
حدثنا ابن حميد ،  قال : ثنا يعقوب القمي ،  عن جعفر بن أبي المغيرة ،  عن سعيد بن جبير ،  في قوله : ( إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية   ) قال : لم تنزل من السماء قطرة إلا بعلم الخزان ، إلا حيث طغى الماء ، فإنه قد غضب لغضب الله ، فطغى على الخزان ، فخرج ما لا يعلمون ما هو  . 
حدثني علي ،  قال : ثنا أبو صالح ،  قال : ثني معاوية ،  عن علي ،  عن ابن عباس ،  قوله : ( إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية   ) إنما يقول : لما كثر  .  [ ص: 578 ] 
حدثني محمد بن سعد ،  قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ،  قوله : ( إنا لما طغى الماء   ) : يعني كثر الماء ليالي غرق الله قوم نوح   . 
حدثني محمد بن عمرو ،  قال : ثنا أبو عاصم ،  قال : ثنا عيسى;  وحدثني الحارث ،  قال : ثنا الحسن ،  قال : ثنا ورقاء  جميعا عن ابن أبي نجيح ،  عن مجاهد ،  قوله : ( إنا لما طغى الماء حملناكم   ) قال محمد بن عمرو  في حديثه : طما ، وقال الحارث   : ظهر  . 
حدثت عن الحسين بن الفرج ،  قال : سمعت أبا معاذ  يقول : ثنا عبيد ،  عن الضحاك ،  في قوله : ( لما طغى الماء   ) : كثر وارتفع  . 
وقوله : ( حملناكم في الجارية   ) يقول : حملناكم في السفينة التي تجري في الماء . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني محمد بن سعد ،  قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ،  قوله : ( حملناكم في الجارية   ) الجارية : السفينة  . 
حدثني يونس ،  قال : أخبرنا ابن وهب ،  قال : قال ابن زيد ،  في قوله : ( حملناكم في الجارية   ) والجارية : سفينة نوح  التي حملتم فيها; وقيل : حملناكم ، فخاطب الذين نزل فيهم القرآن ، وإنما حمل أجدادهم نوحا  وولده ، لأن الذين خوطبوا بذلك ولد الذين حملوا في الجارية ، فكان حمل الذين حملوا فيها من الأجداد حملا لذريتهم ، على ما قد بينا من نظائر ذلك في أماكن كثيرة من كتابنا هذا  . 
وقوله : ( لنجعلها لكم تذكرة   ) يقول : لنجعل السفينة الجارية التي حملناكم فيها لكم تذكرة ، يعني عبرة وموعظة تتعظون بها . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا بشر ،  قال : ثنا يزيد ،  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة ،  قوله : ( لنجعلها لكم تذكرة   ) فأبقاها الله تذكرة وعبرة وآية ، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة ، وكم من سفينة قد كانت بعد سفينة نوح  قد صارت رمادا  . 
وقوله : ( وتعيها أذن واعية   ) يعني حافظة عقلت عن الله ما سمعت . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .  [ ص: 579 ] 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني علي ،  قال : ثنا أبو صالح ،  قال : ثني معاوية ،  عن علي ،  عن ابن عباس   ( وتعيها أذن واعية   ) يقول : حافظة  . 
حدثني محمد بن سعد ،  قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس   ( وتعيها أذن واعية   ) يقول : سامعة ، وذلك الإعلان  . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا نصر بن علي ،  قال : ثنا أبي ، قال : ثنا خالد بن قيس ،  عن قتادة   ( وتعيها أذن واعية   ) قال : أذن عقلت عن الله  . 
حدثنا بشر ،  قال : ثنا يزيد ،  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة ،  قوله : ( وتعيها أذن واعية   ) : أذن عقلت عن الله ، فانتفعت بما سمعت من كتاب الله  . 
حدثنا ابن عبد الأعلى ،  قال : ثنا ابن ثور ،  عن معمر ،  عن قتادة   ( أذن واعية   ) قال : أذن سمعت ، وعقلت ما سمعت  . 
حدثت عن الحسين ،  قال : سمعت أبا معاذ  يقول : ثنا عبيد ،  قال : الضحاك  يقول في قوله : ( وتعيها أذن واعية   ) : سمعتها أذن ووعت  . 
حدثنا علي بن سهل ،  قال : ثنا  الوليد بن مسلم ،  عن علي بن حوشب ،  قال : سمعت مكحولا  يقول : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وتعيها أذن واعية   ) ثم التفت إلى علي ،  فقال : "سألت الله أن يجعلها أذنك" قال علي  رضي الله عنه : فما سمعت شيئا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسيته  . 
حدثني محمد بن خلف ،  قال : ثني بشر بن آدم ،  قال : ثنا عبد الله بن الزبير ،  قال : ثني عبد الله بن رستم ،  قال : سمعت بريدة  يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي   : "يا علي;  إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك ، وأن أعلمك وأن تعي ، وحق على الله أن تعي" قال : فنزلت ( وتعيها أذن واعية   )  . 
حدثني محمد بن خلف ،  قال : ثنا الحسن بن حماد ،  قال : ثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو يحيى التيمي ،  عن فضيل بن عبد الله ،  عن أبي داود ،  عن بريدة الأسلمي ،  قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي   : "إن الله أمرني أن أعلمك ، وأن أدنيك ، ولا أجفوك ولا أقصيك " ، ثم ذكر مثله .  [ ص: 580 ] 
حدثني يونس ،  قال : أخبرنا ابن وهب ،  قال : قال ابن زيد ،  في قوله : ( وتعيها أذن واعية   ) قال : واعية يحذرون معاصي الله أن يعذبهم الله عليها ، كما عذب من كان قبلهم ، تسمعها فتعيها ، إنما تعي القلوب ما تسمع الآذان من الخير والشر من باب الوعي  . 
				
						
						
