القول في تأويل قوله تعالى ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس    ) 
قال أبو جعفر   : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، ومن المعني بالأمر بالإفاضة من حيث أفاض الناس؟ ومن" الناس" الذين أمروا بالإفاضة من موضع إفاضتهم؟ 
فقال بعضهم : المعني بقوله : " ثم أفيضوا" ، قريش  ومن ولدته قريش ،  الذين كانوا يسمون في الجاهلية"الحمس" ، أمروا في الإسلام أن يفيضوا من عرفات ،  وهي التي أفاض منها سائر الناس غير الحمس . وذلك أن قريشا  ومن ولدته قريش ،  كانوا يقولون : "لا نخرج من الحرم" . فكانوا لا يشهدون موقف الناس بعرفة  معهم ، فأمرهم الله بالوقوف معهم . 
ذكر من قال ذلك : 
3831 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ،  قال : حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ،  قال : حدثنا  هشام بن عروة ،  عن أبيه . عن عائشة  قالت : كانت  [ ص: 185 ] قريش  ومن كان على دينها - وهم الحمس - يقفون بالمزدلفة  يقولون : "نحن قطين الله!" ، وكان من سواهم يقفون بعرفة   . فأنزل الله : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس   " 
3832 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث ،  قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا أبان ،  قال : حدثنا  هشام بن عروة ،  عن عروة   : أنه كتب إلى  عبد الملك بن مروان  كتبت إلي في قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار   : "إني أحمس" وإني لا أدري أقالها النبي أم لا؟ غير أني سمعتها تحدث عنه . والحمس : ملة قريش   - وهم مشركون - ومن ولدت قريش  في خزاعة  وبني كنانة   . كانوا لا يدفعون من عرفة ،  إنما كانوا يدفعون من المزدلفة  وهو المشعر الحرام ،  وكانت بنو عامر  حمسا ، وذلك أن قريشا  ولدتهم ، ولهم قيل : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس   " ، وأن العرب كلها كانت تفيض من عرفة  إلا الحمس ، كانوا يدفعون إذا أصبحوا من المزدلفة   .  [ ص: 186 ] 
3833 - حدثني أحمد بن محمد الطوسي ،  قال : حدثنا أبو توبة ،  قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ،  عن سفيان ،  عن حسين بن عبيد الله ،  عن عكرمة ،  عن ابن عباس ،  قال : كانت العرب تقف بعرفة ،  وكانت قريش  تقف دون ذلك بالمزدلفة ،  فأنزل الله : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس   " ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الموقف إلى موقف العرب بعرفة   . 
3834 - حدثنا ابن حميد ،  قال : حدثنا حكام ،  عن عبد الملك ،  عن عطاء   : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس   " من حيث تفيض جماعة الناس . 
3835 - حدثنا ابن حميد ،  قال : حدثنا الحكم ،  قال : حدثنا عمرو بن قيس ،  عن عبد الله بن طلحة ،  عن مجاهد  قال : إذا كان يوم عرفة  هبط الله إلى  [ ص: 187 ] السماء الدنيا في الملائكة ، فيقول : هلم إلي عبادي ، آمنوا بوعدي وصدقوا رسلي ! فيقول : ما جزاؤهم؟ فيقال : أن تغفر لهم . فذلك قوله : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم   " . 
3836 - حدثني محمد بن عمرو ،  قال : حدثنا أبو عاصم ،  قال : حدثنا عيسى ،  عن ابن أبي نجيح  وحدثني المثنى ،  قال : حدثنا أبو حذيفة ،  قال : حدثنا شبل ،  عن ابن أبي نجيح  عن مجاهد   : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس   " ، قال : عرفة   . قال : كانت قريش  تقول نحن : " الحمس أهل الحرم ، ولا نخلف الحرم ، ونفيض عن المزدلفة   " ، فأمروا أن يبلغوا عرفة   . 
3837 - حدثنا بشر ،  قال : حدثنا يزيد ،  قال : حدثنا سعيد ،  عن قتادة  قوله : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس   " ، قال قتادة   : وكانت قريش  وكل حليف لهم وبني أخت لهم ، لا يفيضون من عرفات ،  إنما يفيضون من المغمس ، ويقولون : "إنما نحن أهل الله ، فلا نخرج من حرمه" ، فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس من عرفات ،  وأخبرهم أن سنة إبراهيم  وإسماعيل  هكذا : الإفاضة من عرفات   . 
3838 - حدثني موسى ،  قال : حدثنا عمرو ،  قال : حدثنا أسباط ،  عن  السدي   : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس   " ، قال : كانت العرب تقف بعرفات ،  فتعظم قريش  أن تقف معهم ، فتقف قريش  بالمزدلفة ،  فأمرهم الله أن يفيضوا مع الناس من عرفات   . 
3839 - حدثت عن عمار ،  قال : حدثنا ابن أبي جعفر ،  عن أبيه ، عن الربيع  قوله : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس   " ، قال : كانت قريش  وكل ابن أخت وحليف لهم ، لا يفيضون مع الناس من عرفات ،  يقفون في الحرم ولا يخرجون منه ، يقولون : "إنما نحن أهل حرم الله فلا نخرج من حرمه";  [ ص: 188 ] فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس; وكانت سنة إبراهيم  وإسماعيل  الإفاضة من عرفات   . 
3840 - حدثنا ابن حميد ،  قال : حدثنا سلمة ،  عن ابن إسحاق ،  عن عبد الله بن أبي نجيح ،  قال : كانت قريش   - لا أدري قبل الفيل أم بعده - ابتدعت أمر الحمس ، رأيا رأوه بينهم ، قالوا : نحن بنو إبراهيم  وأهل الحرمة وولاة البيت ، وقاطنو مكة  وساكنوها ، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا ، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا ، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم ، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم" وقالوا : قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم ، فتركوا الوقوف على عرفة ،  والإفاضة منها ، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم ،  ويرون لسائر الناس أن يقفوا عليها ، وأن يفيضوا منها ، إلا أنهم قالوا : نحن أهل الحرم ، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ، ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس - والحمس : أهل الحرم . 
ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكني الحل مثل الذي لهم بولادتهم إياهم ، فيحل لهم ما يحل لهم ، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم . وكانت كنانة  وخزاعة  قد دخلوا معهم في ذلك . ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن ، حتى قالوا : "لا ينبغي للحمس أن يأقطوا الأقط ، ولا يسلأوا السمن وهم حرم ، ولا يدخلوا بيتا من شعر ، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حراما" . ثم رفعوا في ذلك فقالوا : "لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل  [ ص: 189 ] في الحرم ، إذا جاءوا حجاجا أو عمارا ، ولا يطوفون بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس ، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة" . فحملوا على ذلك العرب فدانت به ، وأخذوا بما شرعوا لهم من ذلك ، فكانوا على ذلك حتى بعث الله محمدا  صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله - حين أحكم له دينه وشرع له حجه : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم   " - يعني قريشا ،  و"الناس" العرب - فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات ،  والوقوف عليها ، والإفاضة منها . فوضع الله أمر الحمس - وما كانت قريش  ابتدعت منه - عن الناس بالإسلام حين بعث الله رسوله  . 
3841 - حدثنا بحر بن نصر ،  قال : حدثنا ابن وهب ،  قال : أخبرني ابن أبي الزناد ،  عن  هشام بن عروة ،  عن أبيه ، عن عائشة ،  قالت : كانت قريش  تقف بقزح ،  وكان الناس يقفون بعرفة ،  قال : فأنزل الله : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس   " . 
وقال آخرون : المخاطبون بقوله : " ثم أفيضوا " ، المسلمون كلهم ، والمعني بقوله : " من حيث أفاض الناس   " ، من جمع ، وب " الناس " ، إبراهيم  خليل الرحمن عليه السلام . 
ذكر من قال ذلك . 
3842 - حدثت عن  القاسم بن سلام ،  قال : حدثنا هارون بن معاوية الفزاري ،  عن أبي بسطام  عن الضحاك ،  قال : هو إبراهيم   .  [ ص: 190 ] 
قال أبو جعفر   : والذي نراه صوابا من تأويل هذه الآية ، أنه عني بهذه الآية قريش  ومن كان متحمسا معها من سائر العرب لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله . 
وإذ كان ذلك كذلك فتأويل الآية : فمن فرض فيهن الحج ، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ، وما تفعلوا من خير يعلمه الله . 
وهذا ، إذ كان ما وصفنا تأويله فهو من المقدم الذي معناه التأخير ، والمؤخر الذي معناه التقديم ، على نحو ما تقدم بياننا في مثله ، ولولا إجماع من وصفت إجماعه على أن ذلك تأويله . لقلت : أولى التأويلين بتأويل الآية ما قاله الضحاك  من أن الله عنى بقوله : " من حيث أفاض الناس   " ، من حيث أفاض إبراهيم   . لأن الإفاضة من عرفات  لا شك أنها قبل الإفاضة من جمع ، وقبل وجوب الذكر عند المشعر الحرام   . وإذ كان ذلك لا شك كذلك ، وكان الله عز وجل إنما أمر بالإفاضة من الموضع الذي أفاض منه الناس ، بعد انقضاء ذكر الإفاضة من عرفات ،  وبعد أمره بذكره عند المشعر الحرام ،  ثم قال بعد ذلك : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس   " كان معلوما بذلك أنه لم يأمر بالإفاضة إلا من الموضع الذي لم يفيضوا منه ، دون الموضع الذي قد أفاضوا منه ، وكان الموضع الذي قد  [ ص: 191 ] أفاضوا منه فانقضى وقت الإفاضة منه ، لا وجه لأن يقال : "أفض منه" . 
فإذ كان لا وجه لذلك ، وكان غير جائز أن يأمر الله جل وعز بأمر لا معنى له ، كانت بينة صحة ما قاله من التأويل في ذلك ، وفساد ما خالفه ، لولا الإجماع الذي وصفناه ، وتظاهر الأخبار بالذي ذكرنا عمن حكينا قوله من أهل التأويل . 
فإن قال لنا قائل : وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه : و "الناس" جماعة ، " وإبراهيم   " صلى الله عليه وسلم واحد ، والله تعالى ذكره يقول : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس   " ؟ 
قيل : إن العرب  تفعل ذلك كثيرا ، فتدل بذكر الجماعة على الواحد . ومن ذلك قول الله عز وجل : ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم   ) [ آل عمران : 173 ] والذي قال ذلك واحد ، وهو فيما تظاهرت به الرواية من أهل السير - نعيم بن مسعود الأشجعي ،  ومنه قول الله عز وجل : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا   ) [ المؤمنون : 51 ] قيل : عني بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى . 
				
						
						
