قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : من هذا الذي ينفق في سبيل الله ، فيعين مضعفا ، أو يقوي ذا فاقة أراد الجهاد في سبيل الله ، ويعطي منهم مقترا؟ وذلك هو القرض الحسن الذي يقرض العبد ربه .
وإنما سماه الله - تعالى ذكره - " قرضا " لأن معنى " القرض " إعطاء الرجل غيره ماله مملكا له ، ليقضيه مثله إذا اقتضاه . فلما كان إعطاء من أعطى أهل الحاجة والفاقة في سبيل الله ، إنما يعطيهم ما يعطيهم من ذلك ابتغاء ما وعده الله عليه من جزيل الثواب عنده يوم القيامة ، سماه " قرضا " إذ كان معنى " القرض " في لغة العرب ما وصفنا .
وإنما جعله - تعالى ذكره - " حسنا " لأن المعطي يعطي ذلك عن ندب الله إياه وحثه له عليه ، احتسابا منه . فهو لله طاعة ، وللشياطين معصية . وليس [ ص: 283 ] ذلك لحاجة بالله إلى أحد من خلقه ، ولكن ذلك كقول العرب : " عندي لك قرض صدق ، وقرض سوء " للأمر يأتي فيه للرجل مسرته أو مساءته ، كما قال الشاعر :
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا أو سيئا ، ومدينا بالذي دانا
فقرض المرء : ما سلف من صالح عمله أو سيئه . وهذه الآية نظيرة الآية التي قال الله فيها - تعالى ذكره - : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) [ سورة البقرة : 261 ] .
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول :
5617 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " قال : هذا في سبيل الله " فيضاعفه له أضعافا كثيرة " قال : بالواحد سبعمائة ضعف .
5618 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، قال : لما نزلت : " زيد بن أسلم من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " جاء ابن الدحداح إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا نبي الله ، ألا أرى ربنا يستقرضنا؟ إنما أعطانا لأنفسنا! وإن لي أرضين : إحداهما بالعالية ، والأخرى بالسافلة ، وإني قد جعلت خيرهما صدقة! قال : فكان النبي صلى الله [ ص: 284 ] عليه وسلم يقول : " كم من عذق مذلل في الجنة! لابن الدحداح . عن
5619 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن رجلا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع بهذه الآية قال : " أنا أقرض الله " فعمد إلى خير حائط له فتصدق به . قال : وقال قتادة : يستقرضكم ربكم كما تسمعون ، وهو الولي الحميد ويستقرض عباده .
5620 - حدثنا محمد بن معاوية الأنماطي النيسابوري قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : لما نزلت : " عبد الله بن مسعود من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " قال أبو الدحداح : [ ص: 285 ] يا رسول الله ، أوإن الله يريد منا القرض؟! قال : نعم يا أبا الدحداح ! قال : يدك! قال :
فناوله يده ، قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي ، حائطا فيه ستمائة نخلة . ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها ، فناداها : يا أم الدحداح ! قالت : لبيك ! قال : اخرجي! قد أقرضت ربي حائطا فيه ستمائة نخلة . عن
[ ص: 286 ] وأما قوله : " فيضاعفه له أضعافا كثيرة " فإنه عدة من الله - تعالى ذكره - مقرضه ومنفق ماله في سبيل الله من إضعاف الجزاء له على قرضه ونفقته ، ما لا حد له ولا نهاية ، كما : -
5621 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن : " السدي من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " قال : هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو .
وقد : -
5622 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن عيينة ، عن صاحب له يذكر عن بعض العلماء قال : إن الله أعطاكم [ ص: 287 ] الدنيا قرضا ، وسألكموها قرضا ، فإن أعطيتموها طيبة بها أنفسكم ، ضاعف لكم ما بين الحسنة إلى العشر إلى السبعمائة ، إلى أكثر من ذلك . وإن أخذها منكم وأنتم كارهون ، فصبرتم وأحسنتم ، كانت لكم الصلاة والرحمة ، وأوجب لكم الهدى .
قال أبو جعفر : وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله : ( فيضاعفه ) بالألف ورفعه ، بمعنى : الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له ، نسق " يضاعف " على قوله : " يقرض " .
وقرأه آخرون بذلك المعنى : ( فيضعفه ) ، غير أنهم قرءوا بتشديد " العين " وإسقاط " الألف " .
وقرأه آخرون : ( فيضاعفه له ) بإثبات " الألف " في " يضاعف " ونصبه ، بمعنى الاستفهام . فكأنهم تأولوا الكلام : من المقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له؟ فجعلوا قوله : " فيضاعفه " جوابا للاستفهام ، وجعلوا : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " اسما . لأن " الذي " وصلته ، بمنزلة " عمرو " و " زيد " . فكأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى قول القائل : " من أخوك فتكرمه " لأن الأفصح في جواب الاستفهام بالفاء إذا لم يكن قبله ما يعطف به عليه من فعل مستقبل ، نصبه .
قال أبو جعفر : وأولى هذه القراءات عندنا بالصواب ، قراءة من قرأ : ( فيضاعفه له ) بإثبات " الألف " . ورفع " يضاعف " . لأن في قوله : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " معنى الجزاء . والجزاء إذا دخل في جوابه " الفاء " لم يكن جوابه [ ص: 288 ] ب " الفاء " إلا رفعا . فلذلك كان الرفع في " يضاعفه " أولى بالصواب عندنا من النصب . وإنما اخترنا " الألف " في " يضاعف " من حذفها وتشديد " العين " لأن ذلك أفصح اللغتين وأكثرهما على ألسنة العرب .