قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : قال النبي الذي سألوه أن يبعث لهم ملكا يقاتلوا في سبيل الله : " هل عسيتم " هل تعدون " إن كتب " يعني : إن فرض عليكم القتال " ألا تقاتلوا " يعني : أن لا تفوا بما تعدون الله من أنفسكم من الجهاد في سبيله ، فإنكم أهل نكث وغدر وقلة وفاء بما تعدون ؟ " قالوا : وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله " يعني : قال الملأ من بني إسرائيل لنبيهم ذلك : وأي شيء يمنعنا أن نقاتل في سبيل الله عدونا وعدو الله " وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " بالقهر والغلبة؟ .
فإن قال لنا قائل : وما وجه دخول " أن " في قوله : " وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله " وحذفه من قوله : ( وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم ) ؟ [ سورة الحديد : 8 ]
قيل : هما لغتان فصيحتان للعرب : تحذف " أن " مرة مع قولها : " ما لك " فتقول : " ما لك لا تفعل كذا " بمعنى : ما لك غير فاعله ، كما قال الشاعر :
ما لك ترغين ولا ترغو الخلف
[ ص: 301 ]وذلك هو الكلام الذي لا حاجة بالمتكلم به إلى الاستشهاد على صحته ؛ لفشو ذلك على ألسن العرب .
وتثبت " أن " فيه أخرى ، توجيها لقولها : " ما لك " إلى معناه ، إذ كان معناه : ما منعك ؟ كما قال - تعالى ذكره - : ( ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) [ سورة الأعراف : 12 ] ثم قال في سورة أخرى في نظيره : ( ما لك ألا تكون مع الساجدين ) [ سورة الحجر : 32 ] ، فوضع " ما منعك " موضع " ما لك " " وما لك " موضع " ما منعك " لاتفاق معنييهما ، وإن اختلفت ألفاظهما ، كما تفعل العرب ذلك في نظائره مما تتفق معانيه وتختلف ألفاظه ، كما قال الشاعر :
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت : ألا هل أخو عيش لذيذ بدايم ؟
وكان بعض أهل العربية يقول : أدخلت " أن " في : " ألا تقاتلوا " لأنه بمعنى قول القائل : ما لك في ألا تقاتل . ولو كان ذلك جائزا لجاز أن يقال : " ما لك أن قمت وما لك أنك قائم " وذلك غير جائز ؛ لأن المنع إنما يكون للمستقبل من الأفعال كما يقال : " منعتك أن تقوم " ولا يقال : " منعتك أن قمت " فلذلك قيل في " ما لك " : " ما لك ألا تقوم " ولم يقل : " ما لك أن قمت " .
وقال آخرون منهم : " أن " ها هنا زائدة بعد " ما لنا " كما تزاد بعد " لما " " ولو " وهي تزاد في هذا المعنى كثيرا . قال : ومعناه : وما لنا لا نقاتل في سبيل الله ؟ فأعمل " أن " وهي زائدة . وقال : الفرزدق
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها إذن للام ذوو أحسابها عمرا
والمعنى : لو لم تكن غطفان لها ذنوب " ولا " زائدة فأعملها .
وأنكر ما قال هذا القائل من قوله الذي حكينا عنه آخرون . وقالوا : غير جائز أن تجعل " أن " زائدة في الكلام وهو صحيح في المعنى وبالكلام إليه الحاجة . قالوا : والمعنى ما يمنعنا ألا نقاتل - فلا وجه لدعوى مدع أن " أن " زائدة ، معنى مفهوم صحيح . قالوا : وأما قوله :
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها
[ ص: 304 ]فإن " لا " غير زائدة في هذا الموضع ؛ لأنه جحد ، والجحد إذا جحد صار إثباتا . قالوا : فقوله : " لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها " إثبات الذنوب لها ، كما يقال : " ما أخوك ليس يقوم " بمعنى : هو يقوم .
وقال آخرون : معنى قوله : " ما لنا ألا نقاتل " : ما لنا ولأن لا نقاتل ، ثم حذفت " الواو " فتركت ، كما يقال في الكلام : " ما لك ولأن تذهب إلى فلان " فألقي منها " الواو " ؛ لأن " أن " حرف غير متمكن في الأسماء . وقالوا : نجيز أن يقال : " ما لك أن تقوم " ولا نجيز : " ما لك القيام " ؛ لأن القيام اسم صحيح " وأن " اسم غير صحيح . وقالوا : قد تقول العرب : " إياك أن تتكلم " بمعنى : إياك وأن تتكلم .
وأنكر ذلك من قولهم آخرون وقالوا : لو جاز أن يقال ذلك على التأويل الذي تأوله قائل من حكينا قوله لوجب أن يكون جائزا : " ضربتك بالجارية وأنت كفيل " بمعنى : وأنت كفيل بالجارية ، وأن تقول : " رأيتك إيانا وتريد " بمعنى : " رأيتك وإيانا تريد " ؛ لأن العرب تقول : " إياك بالباطل تنطق " . قالوا : فلو كانت " الواو " مضمرة في " أن " لجاز جميع ما ذكرنا ، ولكن ذلك غير جائز ؛لأن ما بعد " الواو " من الأفاعيل غير جائز له أن يقع على ما قبلها ، واستشهدوا على فساد قول من زعم أن " الواو " مضمرة مع " أن " بقول الشاعر :
فبح بالسرائر في أهلها إياك في غيرهم أن تبوحا
وأن " أن تبوحا " لو كان فيها " واو " مضمرة ، لم يجز تقديم " في غيرهم " عليها .
وأما تأويل قوله تعالى : " وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فإنه يعني : وقد أخرج من غلب عليه من رجالنا ونسائنا من ديارهم وأولادهم ، ومن سبي . وهذا الكلام ظاهره العموم وباطنه الخصوص ؛ لأن الذين قالوا لنبيهم : " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " كانوا في ديارهم وأوطانهم ، وإنما كان أخرج من داره وولده من أسر وقهر منهم .
وأما قوله : " فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم " يقول : فلما فرض عليهم قتال عدوهم والجهاد في سبيله " تولوا إلا قليلا منهم " يقول : أدبروا مولين عن القتال ، وضيعوا ما سألوه نبيهم من فرض الجهاد .
والقليل الذي استثناهم الله منهم ، هم الذين عبروا النهر مع طالوت . وسنذكر سبب تولي من تولى منهم ، وعبور من عبر منهم النهر بعد إن شاء الله ، إذا أتينا عليه .
يقول الله - تعالى ذكره - : " والله عليم بالظالمين " يعني : والله ذو علم بمن ظلم منهم نفسه ، فأخلف الله ما وعده من نفسه ، وخالف أمر ربه فيما سأله ابتداء أن يوجبه عليه .
وهذا من الله - تعالى ذكره - تقريع لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تكذيبهم نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ومخالفتهم أمر ربهم . يقول الله - تعالى ذكره - لهم : إنكم يا معشر اليهود ، عصيتم الله وخالفتم أمره فيما سألتموه أن يفرضه عليكم ابتداء ، من غير أن يبتدئكم ربكم بفرض ما عصيتموه [ ص: 306 ] فيه ، فأنتم بمعصيته - فيما ابتدأكم به من إلزام فرضه - أحرى .
وفي هذا الكلام متروك قد استغني بذكر ما ذكر عما ترك منه ؛ وذلك أن معنى الكلام : " قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " فسأل نبيهم ربهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله ، فبعث لهم ملكا ، وكتب عليهم القتال " فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين " .