[ ص: 432 ] القول في تأويل قوله ( قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت ( 258 ) )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : ألم تر يا محمد إلى الذي حاج إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم : " ربي الذي يحيي ويميت " يعني بذلك : ربي الذي بيده الحياة والموت ، يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء . قال : أنا أفعل ذلك ، فأحيي وأميت ، أستحيي من أردت قتله فلا أقتله ، فيكون ذلك مني إحياء له وذلك عند العرب يسمى " إحياء " كما قال - تعالى ذكره - : ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) [ سورة المائدة : 32 ] وأقتل آخر ، فيكون ذلك مني إماتة له . قال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - : فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها ، فأت بها - إن كنت صادقا أنك إله - من مغربها ! قال الله - تعالى ذكره - : " فبهت الذي كفر " يعني انقطع وبطلت حجته .
يقال منه : " بهت يبهت بهتا " . وقد حكي عن بعض العرب أنها تقول بهذا المعنى : " بهت " . ويقال : " بهت الرجل " إذا افتريت عليه كذبا " بهتا وبهتانا وبهاتة " .
وقد روي عن بعض القرأة أنه قرأ : " فبهت الذي كفر " بمعنى : فبهت إبراهيم الذي كفر . [ ص: 433 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
5873 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت " وذكر لنا أنه دعا برجلين ففتل أحدهما واستحيا الآخر ، فقال : أنا أحيي هذا ! أنا أستحيي من شئت ، وأقتل من شئت ! قال إبراهيم عند ذلك : " فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب " " فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " .
5874 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : " أنا أحيي وأميت " أقتل من شئت ، وأستحيي من شئت ، أدعه حيا فلا أقتله . وقال : ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر : مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان : سليمان بن داود ، والكافران : وذو القرنين بختنصر ونمروذ بن كنعان ، لم يملكها غيرهم .
5875 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن : أول جبار كان في الأرض زيد بن أسلم نمروذ . فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام ، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار ، فإذا مر به ناس قال : من ربكم ؟ قالوا : أنت ! حتى مر إبراهيم ، قال : من ربك ؟ قال : الذي يحيي ويميت ؟ قال : أنا أحيي وأميت ! قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ! فبهت الذي كفر . قال : فرده بغير طعام . قال : فرجع إبراهيم على أهله .
فمر على كثيب أعفر ، فقال : ألا آخذ من هذا فآتي به [ ص: 434 ] أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم ! فأخذ منه فأتى أهله . قال : فوضع متاعه ثم نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ، ففتحته فإذا هي بأجود طعام رآه أحد ، فصنعت له منه ، فقربته إليه ، وكان عهد أهله ليس عندهم طعام ، فقال : من أين هذا ؟ قالت : من الطعام الذي جئت به ! فعلم أن الله رزقه ، فحمد الله . ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن بي وأتركك على ملكك ! قال : وهل رب غيري ؟ ! فجاءه الثانية ، فقال له ذلك ، فأبى عليه . ثم أتاه الثالثة فأبى عليه ، فقال له الملك : اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ! فجمع الجبار جموعه ، فأمر الله الملك ، ففتح عليه بابا من البعوض ، فطلعت الشمس ، فلم يروها من كثرتها ، فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم ، وشربت دماءهم ، فلم يبق إلا العظام ، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء . فبعث الله عليه بعوضة ، فدخلت في منخره ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه وضرب بهما رأسه . وكان جبارا أربعمائة عام ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، وأماته الله . وهو الذي بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد ، وهو الذي قال الله : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد ) [ النحل : 26 ] .
5876 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " قال : هو نمروذ كان بالموصل والناس يأتونه ، فإذا دخلوا عليه ، قال : من ربكم ؟ فيقولون : أنت ! [ ص: 435 ] فيقول : أميروهم . فلما دخل إبراهيم ، ومعه بعير خرج يمتار به لولده . قال : فعرضهم كلهم ، فيقول : من ربكم ؟ فيقولون : أنت ! فيقول : أميروهم ! حتى عرض إبراهيم مرتين ، فقال : من ربك ! ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت ! قال : أنا أحيي وأميت ، إن شئت قتلتك فأمتك ، وإن شئت استحييتك . قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " . قال : أخرجوا هذا عني فلا تميروه شيئا ! فخرج القوم كلهم قد امتاروا ، وجوالقا إبراهيم يصطفقان . حتى إذا نظر إلى سواد جبال أهله قال : ليحزني صبيتي إسماعيل وإسحاق ، لو أني ملأت هذين الجوالقين من هذه البطحاء ، فذهبت بهما ، قرت عينا صبيتي ، حتى إذا كان الليل أهرقته ! قال : فملأهما ، ثم خيطهما ، ثم جاء بهما . فترامى عليهما الصبيان فرحا ، وألقى رأسه في حجر سارة ساعة ، ثم قالت : ما يجلسني ! قد جاء إبراهيم تعبا لغبا ، لو قمت فصنعت له طعاما إلى أن يقوم ! قال : فأخذت وسادة فأدخلتها مكانها ، وانسلت قليلا قليلا لئلا توقظه . قال : فجاءت إلى إحدى الغرارتين ففتقتها ، فإذا حوارى من النقي لم يروا مثله عند أحد قط ، فأخذت منه فعجنته وخبزته ، فلما أتت توقظ إبراهيم جاءته حتى وضعته بين يديه ، فقال : أي شيء هذا [ ص: 436 ] يا سارة ؟ قالت : من جوالقك ، لقد جئت وما عندنا قليل ولا كثير قال : فذهب ينظر إلى الجوالق الآخر فإذا هو مثله ، فعرف من أين ذاك .
5877 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : لما قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت قال هو - يعني نمروذ : فأنا أحيي وأميت فدعا برجلين ، فاستحيا أحدهما ، وقتل الآخر ، قال : أنا أحيي وأميت قال : أي أستحيي من شئت . فقال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب " فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " .
5878 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن قال : لما خرج السدي إبراهيم من النار ، أدخلوه على الملك ، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه ، وقال له : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت قال نمروذ : أنا أحيي وأميت ! أنا أدخل أربعة نفر بيتا ، فلا يطعمون ولا يسقون ، حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا ، وتركت اثنين فماتا . فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك ، قال له إبراهيم : فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب ! فبهت الذي كفر . وقال : إن هذا إنسان مجنون ! فأخرجوه ، ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها ، وأن النار لم تأكله ! وخشي أن يفتضح في قومه أعني نمروذ وهو قول الله - تعالى ذكره - : ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) [ سورة الأنعام : 83 ] ، فكان يزعم أنه رب وأمر بإبراهيم فأخرج .
5879 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن قال : أخبرني ابن جريج عبد الله بن كثير أنه سمع يقول : قال : أنا أحيي وأميت ، أحيي فلا أقتل ، وأميت من قتلت قال مجاهدا ، كان أتى [ ص: 437 ] برجلين ، فقتل أحدهما ، وترك الآخر ، فقال : أنا أحيي وأميت ، قال : أقتل فأميت من قتلت ، وأحيي قال : استحيي فلا أقتل . ابن جريج
5880 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : ذكر لنا - والله أعلم - أن نمروذ قال لإبراهيم فيما يقول : أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته ، وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ، ما هو ؟ قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال نمروذ : فأنا أحيي وأميت ! فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت ؟ قال : آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي ، فأقتل أحدهما فأكون قد أمته ، وأعفو عن الآخر فأتركه وأكون قد أحييته ! فقال له إبراهيم عند ذلك : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب أعرف أنه كما تقول ، فبهت عند ذلك نمروذ ، ولم يرجع إليه شيئا ، وعرف أنه لا يطيق ذلك . يقول - تعالى ذكره - : " فبهت الذي كفر " يعني وقعت عليه الحجة يعني نمروذ .
قال أبو جعفر : وقوله : " والله لا يهدي القوم الظالمين " يقول : والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة ؛ لأن أهل الباطل حججهم داحضة .
وقد بينا أن معنى " الظلم " وضع الشيء في غير موضعه ، والكافر وضع جحوده ما جحد في غير موضعه ، فهو بذلك من فعله ظالم لنفسه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق . [ ص: 438 ]
5881 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق : " والله لا يهدي القوم الظالمين " أي : لا يهديهم في الحجة عند الخصومة لما هم عليه من الضلالة .