قال أبو جعفر : دللنا فيما مضى قبل على أن العظام التي أمر بالنظر إليها هي عظام نفسه وحماره ، وذكرنا اختلاف المختلفين في تأويل ذلك ، وما يعني كل قائل بما قاله في ذلك بما أغنى عن إعادته .
وأما قوله : ( كيف ننشزها ) فإن القرأة اختلفت في قراءته .
فقرأ بعضهم : ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) بضم النون وبالزاي ، وذلك قراءة عامة قرأة الكوفيين ، بمعنى : وانظر كيف نركب بعضها على بعض ، وننقل ذلك إلى مواضع من الجسم .
وأصل " النشوز " : الارتفاع ، ومنه قيل : " قد نشز الغلام " إذا ارتفع [ ص: 476 ] طوله وشب ، ومنه " نشوز المرأة " على زوجها . ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الأرض : " نشز ونشز ونشاز " فإذا أردت أنك رفعته ، قلت : " أنشزته إنشازا " و " نشز هو " إذا ارتفع .
فمعنى قوله : ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) في قراءة من قرأ ذلك بالزاي : كيف نرفعها من أماكنها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد .
وممن تأول ذلك هذا التأويل جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
5948 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : ( كيف ننشزها ) كيف نخرجها .
5949 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن : ( السدي كيف ننشزها ) قال : نحركها .
وقرأ ذلك آخرون : " وانظر إلى العظام كيف ننشرها " بضم النون . قالوا : من قول القائل : " أنشر الله الموتى فهو ينشرهم إنشارا " وذلك قراءة عامة قرأة أهل المدينة ، بمعنى : وانظر إلى العظام كيف نحييها ، ثم نكسوها لحما .
ذكر من قال ذلك :
5950 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " كيف ننشرها " قال : انظر إليها حين يحييها الله . [ ص: 477 ]
5951 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
5952 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مثله .
5953 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " وانظر إلى العظام كيف ننشرها " قال : كيف نحييها .
واحتج بعض قرأة ذلك بالراء وضم نون أوله بقوله : ( ثم إذا شاء أنشره ) [ عبس : 22 ] ، فرأى أن من الصواب إلحاق قوله : " وانظر إلى العظام كيف ننشرها " به .
وقرأ ذلك بعضهم : " وانظر إلى العظام كيف ننشرها " بفتح النون من أوله وبالراء . كأنه وجه ذلك إلى مثل معنى نشر الشيء وطيه . وذلك قراءة غير محمودة ؛ لأن العرب لا تقول : نشر الموتى ، وإنما تقول : " أنشر الله الموتى " فنشروا هم " بمعنى : أحياهم فحيوا هم . ويدل على ذلك قوله : ( ثم إذا شاء أنشره ) وقوله : ( أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ) [ الأنبياء : 21 ] وعلى أنه إذا أريد به حيي الميت وعاش بعد مماته قيل : " نشر " ومنه قول أعشى بني ثعلبة : .
حتى يقول الناس مما رأوا : يا عجبا للميت الناشر
[ ص: 478 ]وروي سماعا من العرب : " كان به جرب فنشر " إذا عاد وحيي .
قال أبو جعفر : والقول في ذلك عندي أن معنى " الإنشاز " ومعنى " الإنشار " متقاربان ؛ لأن معنى " الإنشاز " : التركيب والإثبات ورد العظام إلى العظام ، ومعنى " الإنشار " إعادة الحياة إلى العظام . وإعادتها لا شك أنه ردها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها . فهما - وإن اختلفا في اللفظ - فمتقاربا المعنى . وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئا يقطع العذر ويوجب الحجة ، فبأيهما قرأ القارئ فمصيب ؛ لانقياد معنييهما ، ولا حجة توجب لإحداهما القضاء بالصواب على الأخرى . [ ص: 479 ]
فإن ظن ظان أن " الإنشار " إذا كان إحياء فهو بالصواب أولى ؛ لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنشر إنما أمر به ليرى عيانا ما أنكره بقوله : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) ؟ [ فقد أخطأ ] . فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع إنما عني به ردها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه ، وهو يحيى ؛ لإعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات . والذي يدل على ذلك قوله : ( ثم نكسوها لحما ) . ولا شك أن الروح إنما نفخت في العظام التي أنشزت بعد أن كسيت اللحم .
وإذ كان ذلك كذلك وكان معنى " الإنشاز " تركيب العظام وردها إلى أماكنها من الجسد ، وكان ذلك معنى " الإنشار " ، وكان معلوما استواء معنييهما ، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه ، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه .
وأما القراءة الثالثة ، فغير جائزة القراءة بها عندي ، وهي قراءة من قرأ : " كيف ننشرها " بفتح النون وبالراء ؛ لشذوذها عن قراءة المسلمين ، وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب .