[ ص: 485 ] القول في تأويل قوله : ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : ألم تر إذ قال إبراهيم : رب أرني . وإنما صلح أن يعطف بقوله : ( وإذ قال إبراهيم ) على قوله : ( أو كالذي مر على قرية ) ، وقوله : ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ) ؛ لأن قوله : ( ألم تر ) ليس معناه : ألم تر بعينيك ، وإنما معناه : ألم تر بقلبك ، فمعناه : ألم تعلم فتذكر ، فهو وإن كان لفظه لفظ " الرؤية " فيعطف عليه أحيانا بما يوافق لفظه من الكلام ، وأحيانا بما يوافق معناه .
واختلف أهل التأويل في سبب إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى . فقال بعضهم : كانت مسألته ذلك ربه أنه رأى دابة قد تقسمتها السباع والطير ، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها ، مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ليرى ذلك عيانا فيزداد يقينا برؤيته ذلك عيانا إلى علمه به خبرا ، فأراه الله ذلك مثلا بما أخبر أنه أمره به . مسألة
ذكر من قال ذلك :
5963 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا قال : حدثنا يزيد بن زريع سعيد ، عن قتادة قوله : ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى ) ذكر لنا أن خليل الله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أتى على دابة توزعتها الدواب والسباع ، فقال : ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) .
5964 - حدثنا عن الحسن قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد ، [ ص: 486 ] قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( رب أرني كيف تحيي الموتى ) قال : مر إبراهيم على دابة ميت قد بلي وتقسمته الرياح والسباع ، فقام ينظر ، فقال : . سبحان الله ! كيف يحيي الله هذا ؟ وقد علم أن الله قادر على ذلك ، فذلك قوله : ( رب أرني كيف تحيي الموتى ) .
5965 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال : بلغني أن ابن جريج إبراهيم بينا هو يسير على الطريق ، إذا هو بجيفة حمار عليها السباع والطير ، قد تمزعت لحمها ، وبقي عظامها . فلما ذهبت السباع ، وطارت الطير على الجبال والآكام ، فوقف وتعجب ، ثم قال : رب قد علمت لتجمعنها من بطون هذه السباع والطير ! رب أرني كيف تحيي الموتى ! قال : أولم تؤمن ، قال : بلى ! ولكن ليس الخبر كالمعاينة .
5966 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : مر إبراهيم بحوت نصفه في البر ، ونصفه في البحر ، فما كان منه في البحر فدواب البحر تأكله ، وما كان منه في البر فالسباع ودواب البر تأكله ، فقال له الخبيث : . يا إبراهيم ، متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء ؟ فقال : يا رب ، أرني كيف تحيي الموتى ! قال : أولم تؤمن ؟ قال : بلى ! ولكن ليطمئن قلبي .
وقال آخرون : بل كان سبب مسألته ربه ذلك المناظرة والمحاجة التي جرت بينه وبين نمروذ في ذلك .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 487 ]
5967 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : لما جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى مما قصه الله في " سورة الأنبياء " قال نمروذ - فيما يذكرون - لإبراهيم : أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته ، وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ، ما هو ؟ قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال نمروذ : أنا أحيي وأميت . فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت ؟ ثم ذكر ما قص الله من محاجته إياه . قال : فقال إبراهيم عند ذلك : رب أرني كيف تحيي الموتى ، قال : أولم تؤمن ؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي . من غير شك في الله - تعالى ذكره - ولا في قدرته ، ولكنه أحب أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه فقال : " ليطمئن قلبي " أي : ما تاق إليه إذا هو علمه .
قال أبو جعفر : وهذان القولان - أعني الأول وهذا الآخر - متقاربا المعنى في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى كانت ليرى عيانا ما كان عنده من علم ذلك خبرا .
وقال آخرون : بل كانت مسألته ذلك ربه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلا فسأل ربه أن يريه عاجلا من العلامة له على ذلك ؛ ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيدا .
ذكر من قال ذلك :
5968 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن قال : لما اتخذ الله السدي إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربه أن يأذن له أن يبشر إبراهيم بذلك ، فأذن له ، فأتى إبراهيم وليس في البيت ، فدخل داره وكان إبراهيم أغير الناس ، إن خرج أغلق الباب فلما جاء ووجد في داره رجلا [ ص: 488 ] ثار إليه ليأخذه . قال : من أذن لك أن تدخل داري ؟ قال ملك الموت : أذن لي رب هذه الدار ، قال إبراهيم : صدقت ! وعرف أنه ملك الموت . قال : من أنت ؟ قال : أنا ملك الموت جئتك أبشرك بأن الله قد اتخذك خليلا ! فحمد الله وقال : يا ملك الموت ، أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاس الكفار . قال : يا إبراهيم لا تطيق ذلك . قال : بلى . قال : فأعرض ! فأعرض إبراهيم ثم نظر إليه ، فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار ، ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهب النار . فغشي على إبراهيم ، ثم أفاق وقد تحول ملك الموت في الصورة الأولى ، فقال : يا ملك الموت ، لو لم يلق الكافر عند الموت من البلاء والحزن إلا صورتك لكفاه ، فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين ؟ قال : فأعرض ! فأعرض إبراهيم ، ثم التفت ، فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجها وأطيبه ريحا ، في ثياب بيض ، فقال : يا ملك الموت ، لو لم يكن للمؤمن عند ربه من قرة العين والكرامة إلا صورتك هذه ، لكان يكفيه .
فانطلق ملك الموت ، وقام إبراهيم يدعو ربه يقول : رب أرني كيف تحيي الموتى حتى أعلم أني خليلك . قال : أولم تؤمن بأني خليلك ؟ يقول : تصدق . قال : بلى ، ولكن ليطمئن قلبي بخلولتك . [ ص: 489 ]
5969 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : بالخلة .
وقال آخرون : قال ذلك لربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى .
ذكر من قال ذلك :
5970 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب في قوله : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : قال ابن عباس : ما في القرآن آية أرجى عندي منها .
5971 - حدثنا قال : حدثنا محمد بن المثنى محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة قال : سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل ، عن قال : اتعد سعيد بن المسيب عبد الله بن عباس أن يجتمعا . قال : ونحن يومئذ شببة ، فقال أحدهما لصاحبه : أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة ؟ فقال وعبد الله بن عمرو عبد الله بن عمرو : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) . [ الزمر : 53 ] حتى ختم الآية . فقال ابن عباس : أما إن كنت تقول إنها ، وإن أرجى منها لهذه [ ص: 490 ] الأمة قول إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - : ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) .
5972 - حدثنا القاسم قال : حدثني الحسين قال : حدثني حجاج ، عن قال : سألت ابن جريج عطاء بن أبي رباح عن قوله : ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) قال : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس ، فقال : ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ) قال : ( فخذ أربعة من الطير ) ؛ ليريه .
5973 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، قال حدثنا سعيد بن تليد قال : حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال : حدثني بكر بن مضر ، عن عمرو بن الحارث ، عن ، عن يونس بن يزيد ابن شهاب قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن وسعيد بن المسيب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبي هريرة إبراهيم ، قال : رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " . [ ص: 491 ] نحن أحق بالشك من
5974 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب ، عن وسعيد بن المسيب ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فذكر نحوه . أبي هريرة
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما صح به الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : وهو قوله : إبراهيم قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن " وأن تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرض في قلبه ، كالذي ذكرنا عن " نحن أحق بالشك من ابن زيد آنفا من أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر ، قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء ، ألقى الشيطان في نفسه فقال : متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء ؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ؛ ليعاين ذلك عيانا ، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقى [ ص: 492 ] فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك . فقال له ربه : ( أولم تؤمن ) ؟ يقول : أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر ؟ قال : بلى يا رب ! لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي ، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت .
5975 - حدثني بذلك يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد .
ومعنى قوله : ( ليطمئن قلبي ) ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه .
وهذا التأويل الذي قلناه في ذلك هو تأويل الذين وجهوا معنى قوله : ( ليطمئن قلبي ) إلى أنه : ليزداد إيمانا أو إلى أنه : ليوقن .
ذكر من قال ذلك : ليوقن أو ليزداد يقينا أو إيمانا .
5976 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن عن قيس بن مسلم ، سعيد بن جبير : ( ليطمئن قلبي ) قال : ليوقن .
5977 - حدثنا قال : حدثنا محمد بن بشار عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان . وحدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير : ( ليطمئن قلبي ) قال : ليزداد يقيني .
5978 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( ولكن ليطمئن قلبي ) يقول : ليزداد يقينا .
5979 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : وأراد نبي الله إبراهيم ليزداد يقينا إلى يقينه .
5980 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : قال معمر وقال قتادة : ليزداد يقينا . [ ص: 493 ]
5981 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : أراد إبراهيم أن يزداد يقينا .
5982 - حدثني المثنى قال : حدثنا قال : حدثنا محمد بن كثير البصري إسرائيل قال : حدثنا أبو الهيثم ، عن سعيد بن جبير : ( ليطمئن قلبي ) قال : ليزداد يقيني .
5983 - حدثني المثنى قال : حدثنا قال : حدثنا الفضل بن دكين سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : ليزداد يقينا .
5984 - حدثنا صالح بن مسمار قال : حدثنا قال : حدثنا زيد بن الحباب خلف بن خليفة قال : حدثنا ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد وإبراهيم في قوله : ( ليطمئن قلبي ) قال : لأزداد إيمانا مع إيماني .
5985 - حدثنا صالح قال : حدثنا زيد قال : أخبرنا زياد ، عن عبد الله العامري قال : حدثنا ليث ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير في قول الله : ( ليطمئن قلبي ) قال : لأزداد إيمانا مع إيماني .
وقد ذكرنا فيما مضى قول من قال : معنى قوله : ( ليطمئن قلبي ) بأني خليلك .
وقال آخرون : معنى قوله : ( ليطمئن قلبي ) لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك ، وتعطيني إذا سألتك .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 494 ]
5986 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( ليطمئن قلبي ) قال : أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك ، وتعطيني إذا سألتك .
وأما تأويل قوله : ( قال أولم تؤمن ) فإنه : أولم تصدق ؟ كما : -
5987 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن . السدي
5988 - وحدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن ، عن قيس بن مسلم سعيد بن جبير قوله : ( أولم تؤمن ) قال : أولم توقن بأني خليلك ؟
5989 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( أولم تؤمن ) قال : أولم توقن .