( وجعلنا ذريته هم الباقين ( 77 ) )
( ثم إن لهم عليها لشوبا ) خلطا ومزاجا ( من حميم ) من ماء حار شديد الحرارة ، يقال لهم إذا أكلوا الزقوم : اشربوا عليه الحميم ، فيشوب الحميم في بطونهم الزقوم فيصير شوبا لهم .
( ثم إن مرجعهم ) بعد شرب الحميم ، ( لإلى الجحيم ) وذلك أنهم يوردون الحميم لشربه وهو خارج من الحميم كما تورد الإبل الماء ، ثم يردون إلى الجحيم ، دل عليه قوله تعالى : " يطوفون بينها وبين حميم آن " ( الرحمن - 44 ) وقرأ ابن مسعود : ( ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم ) .
( إنهم ألفوا ) وجدوا ، ( آباءهم ضالين ) . ( فهم على آثارهم يهرعون ) يسرعون ، قال الكلبي : يعملون مثل أعمالهم .
( ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ) من الأمم الخالية .
( ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ) الكافرين أي : كان عاقبتهم العذاب .
( إلا عباد الله المخلصين ) الموحدين نجوا من العذاب .
قوله عز وجل : ( ولقد نادانا نوح ) دعا ربه على قومه فقال : " إني مغلوب فانتصر " ( القمر - 10 ) ( فلنعم المجيبون ) نحن ، يعني : أجبنا دعاءه وأهلكنا قومه .
( ونجيناه وأهله من الكرب العظيم ) [ الغم العظيم ] الذي لحق قومه وهو الغرق .
( وجعلنا ذريته هم الباقين ) وأراد أن الناس كلهم من نسل نوح .
روى الضحاك عن ابن عباس قال : لما خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءهم . [ ص: 44 ]
قال : كان ولد سعيد بن المسيب نوح ثلاثة : ساما وحاما ويافث ، فسام أبو العرب وفارس والروم ، وحام أبو السودان ، ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك .
( وتركنا عليه في الآخرين ( 78 ) سلام على نوح في العالمين ( 79 ) إنا كذلك نجزي المحسنين ( 80 ) إنه من عبادنا المؤمنين ( 81 ) ثم أغرقنا الآخرين ( 82 ) وإن من شيعته لإبراهيم ( 83 ) إذ جاء ربه بقلب سليم ( 84 ) إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون ( 85 ) أئفكا آلهة دون الله تريدون ( 86 ) فما ظنكم برب العالمين ( 87 ) فنظر نظرة في النجوم ( 88 ) فقال إني سقيم ( 89 ) )
وتركنا عليه في الآخرين ) أي : أبقينا له ثناء حسنا وذكرا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة . (
( سلام على نوح في العالمين ) أي : سلام عليه منا في العالمين ] وقيل : أي تركنا عليه في الآخرين أن يصلى عليه إلى يوم القيامة .
( إنا كذلك نجزي المحسنين ) قال مقاتل : جزاه الله بإحسانه الثناء الحسن في العالمين . ( إنه من عبادنا المؤمنين ثم أغرقنا الآخرين ) [ يعني الكفار ] .
قوله تعالى ( وإن من شيعته ) أي : أهل دينه وسنته . ) ( لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم ) مخلص من الشرك والشك .
( إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون ) استفهام توبيخ .
( أئفكا آلهة دون الله تريدون ) يعني : أتأفكون إفكا وهو أسوأ الكذب وتعبدون آلهة سوى الله .
( فما ظنكم برب العالمين ) - إذ لقيتموه وقد عبدتم غيره - أنه يصنع بكم .
( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) قال ابن عباس : كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه ، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة ، وكان لهم من الغد عيد ومجمع ، وكانوا يدخلون على أصنامهم [ ويقربون لهم القرابين ] ، ويصنعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم إلى عيدهم - زعموا - للتبرك عليه فإذا [ ص: 45 ] انصرفوا من عيدهم أكلوه ، فقالوا لإبراهيم : ألا تخرج غدا معنا إلى عيدنا ؟ فنظر إلى النجوم فقال : إني سقيم . قال ابن عباس : مطعون ، وكانوا يفرون من الطاعون فرارا عظيما . قال الحسن : مريض . وقال مقاتل : وجع . وقال الضحاك : سأسقم .
( فتولوا عنه مدبرين ( 90 ) فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ( 91 ) ما لكم لا تنطقون ( 92 ) فراغ عليهم ضربا باليمين ( 93 ) فأقبلوا إليه يزفون ( 94 ) قال أتعبدون ما تنحتون ( 95 ) والله خلقكم وما تعملون ( 96 ) قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم ( 97 ) فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين ( 98 ) )
) فتولوا عنه مدبرين ) إلى عيدهم ، فدخل ( إبراهيم على الأصنام فكسرها . كما قال الله تعالى : ( فراغ إلى آلهتهم ) مال إليها ميلة في خفية ، ولا يقال : " راغ " حتى يكون صاحبه مخفيا لذهابه ومجيئه ، ) ( فقال ) استهزاء بها : ( ألا تأكلون ) يعني : الطعام الذي بين أيديكم .
( ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ) مال عليهم ، ( ضربا باليمين ) أي : كان يضربهم بيده اليمنى ؛ لأنها أقوى على العمل من الشمال . وقيل : باليمين أي : بالقوة . وقيل : أراد به القسم الذي سبق منه وهو قوله : " وتالله لأكيدن أصنامكم " ( الأنبياء - 57 ) .
( فأقبلوا إليه ) يعني : إلى إبراهيم ) ( يزفون ) يسرعون ، وذلك أنهم أخبروا بصنيع إبراهيم بآلهتهم فأسرعوا إليه ليأخذوه .
قرأ الأعمش وحمزة : " يزفون " بضم الياء وقرأ الآخرون بفتحها ، وهما لغتان . وقيل : بضم الياء ، أي : يحملون دوابهم على الجد والإسراع .
) ( قال ) لهم إبراهيم على وجه الحجاج : ( أتعبدون ما تنحتون ) يعني : ما تنحتون بأيديكم .
( والله خلقكم وما تعملون ) بأيديكم من الأصنام ، وفيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى .
( قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم ) معظم النار ، قال مقاتل : بنوا له حائطا من الحجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا ، وعرضه عشرون ذراعا ، وملئوه من الحطب وأوقدوا فيه النار وطرحوه فيها .
( فأرادوا به كيدا ) شرا وهو أن يحرقوه ، ( فجعلناهم الأسفلين ) أي : المقهورين حيث سلم الله تعالى إبراهيم ورد كيدهم . [ ص: 46 ]
( وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين ( 99 ) رب هب لي من الصالحين ( 100 ) فبشرناه بغلام حليم ( 101 ) فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( 102 ) )
( وقال ) - يعني - إبراهيم : ( إني ذاهب إلى ربي ) أي : مهاجر إلى ربي ، والمعنى : أهجر دار الكفر وأذهب إلى مرضاة ربي ، قاله بعد الخروج من النار ، كما قال : " إني مهاجر إلى ربي " ( العنكبوت - 26 ) ، ) ( سيهدين ) إلى حيث أمرني بالمصير إليه ، وهو الشام .
قال مقاتل : فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال : ( رب هب لي من الصالحين ) يعني : هب لي ولدا صالحا من الصالحين .
( فبشرناه بغلام حليم ) قيل : غلام في صغره ، حليم في كبره ، ففيه بشارة أنه ابن وأنه يعيش فينتهي في السن حتى يوصف بالحلم .
( فلما بلغ معه السعي ) قال ابن عباس وقتادة : يعني المشي معه إلى الجبل . وقال مجاهد عن ابن عباس : لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم والمعنى : بلغ أن يتصرف معه ويعينه في عمله . قال الكلبي : يعني العمل لله تعالى ، وهو قول الحسن ومقاتل بن حيان وابن زيد ، قالوا : هو العبادة لله تعالى .
واختلفوا في سنه ، قيل : كان ابن ثلاث عشرة سنة . وقيل : كان ابن سبع سنين .
( قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك ) واختلف العلماء من المسلمين في هذا إبراهيم بذبحه بعد اتفاق أهل الكتابين على أنه الغلام الذي أمر إسحاق ، فقال قوم : هو إسحاق وإليه ذهب من الصحابة : عمر ، وعلي ، ، وابن مسعود ، ومن التابعين وأتباعهم : وابن عباس كعب الأحبار ، ، وسعيد بن جبير وقتادة ، ومسروق ، وعكرمة ، ، وعطاء ومقاتل ، ، والزهري ، وهي رواية والسدي عكرمة عن وسعيد بن جبير ابن عباس ، وقالوا : كانت هذه القصة بالشام .
وروي عن سعيد بن جبير قال : أري إبراهيم ذبح إسحاق في المنام ، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر بمنى ، فلما أمره الله تعالى بذبح الكبش ، ذبحه وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة وطويت له الأودية والجبال .
وقال آخرون : هو إسماعيل ، وإليه ذهب عبد الله بن عمر ، وهو قول ، سعيد بن المسيب ، والشعبي والحسن البصري ، ومجاهد ، ، والربيع بن أنس ، ومحمد بن كعب القرظي والكلبي ، وهي رواية عطاء بن أبي رباح ، عن ويوسف بن ماهك ابن عباس قال : المفدى إسماعيل .
وكلا القولين يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ذهب إلى أن الذبيح إسحاق احتج من القرآن بقوله : " فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي " ( الصافات - 101 ) أمره بذبح من بشره به ، وليس في القرآن أنه بشر بولد سوى إسحاق ، كما قال في سورة هود : " فبشرناها بإسحاق " ( هود - 71 ) . [ ص: 47 ]
ومن ذهب إلى أنه إسماعيل احتج بأن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق بعد الفراغ من قصة المذبوح فقال : " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين " ( الصافات - 112 ) دل على أن المذبوح غيره ، وأيضا قال الله - تعالى - في سورة هود : " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " ( هود - 71 ) فكما بشره بإسحاق بشره بابنه يعقوب ، فكيف يأمره بذبح إسحاق وقد وعده بنافلة منه .
قال القرظي : سأل عمر بن عبد العزيز رجلا كان من علماء اليهود أسلم وحسن إسلامه : أي ابني إبراهيم أمر بذبحه ؟ فقال : إسماعيل ، ثم قال : يا أمير المؤمنين إن اليهود لتعلم ذلك ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله - تعالى - بذبحه ، ويزعمون أنه إسحاق .
ومن الدليل عليه : أن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في أيام ابن الزبير والحجاج .
قال الشعبي : رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة .
وعن ابن عباس قال : والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة ، قد وحش يعني يبس .
قال الأصمعي : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل ؟ فقال : يا صميع أين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة ؟ إنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه .
وأما قال قصة الذبح : لما دعا السدي إبراهيم فقال : رب هب لي من الصالحين ، وبشر به ، قال : هو إذا لله ذبيح ، فلما ولد وبلغ معه السعي قيل له : أوف بنذرك ، هذا هو السبب في أمر الله تعالى إياه بذبح ابنه ، فقال عند ذلك لإسحاق : انطلق فقرب قربانا لله - تعالى - فأخذ سكينا وحبلا وانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال ، فقال له الغلام : يا أبت أين قربانك ؟ فقال : " يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر " . [ ص: 48 ]
وقال محمد بن إسحاق : كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ، ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام ، حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي ، وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته ، أمر في المنام أن يذبحه ، وذلك أنه رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح روي في نفسه أي : فكر من الصباح إلى الرواح ، أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان ؟ فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأى في المنام ثانيا ، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله - عز وجل - ، فمن ثم سمي يوم عرفة .
قال مقاتل : رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متواليات ، فلما تيقن ذلك أخبر به ابنه ، فقال : " يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى " .
قرأ حمزة : " ترى " بضم التاء وكسر الراء : ماذا تشير . وإنما أمره ليعلم صبره على أمر الله تعالى ، وعزيمته على طاعته . والكسائي
وقرأ العامة بفتح التاء والراء إلا أبا عمرو فإنه يميل الراء .
قال له ابنه : ( ياأبت افعل ما تؤمر ) وقال ابن إسحاق وغيره : فلما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه : يا بني خذ الحبل والمدية ننطلق إلى هذا الشعب نحتطب ، فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما أمر ، ( قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) .