قوله تعالى ( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون    ( 87 ) وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون    ( 88 ) ) 
( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين    ( 89 ) بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين    ( 90 ) ) 
( ولقد آتينا    ) أعطينا ( موسى الكتاب    ) التوراة ، جملة واحدة ( وقفينا    ) وأتبعنا ( من بعده بالرسل    ) رسولا بعد رسول ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات    ) الدلالات الواضحات وهي ما ذكر الله في سورة آل عمران والمائدة وقيل : أراد الإنجيل ( وأيدناه ) قويناه ( بروح القدس    ) قرأ ابن كثير  القدس بسكون الدال والآخرون بضمها وهما لغتان مثل الرعب والرعب ، واختلفوا في روح القدس  ، قال الربيع  وغيره : أراد بالروح الذي نفخ فيه ، والقدس هو الله أضافه إلى نفسه تكريما وتخصيصا نحو بيت الله ، وناقة الله ، كما قال : فنفخنا فيه من روحنا    " ( 12 - التحريم ) [ وروح منه    ( 171 - النساء ) وقيل : أراد بالقدس الطهارة ، يعني الروح الطاهرة سمى روحه قدسا ، لأنه لم تتضمنه أصلاب الفحولة ولم تشتمل عليه أرحام الطوامث ، إنما كان أمرا من أمر الله تعالى ، قال قتادة   والسدي  والضحاك    : روح القدس جبريل  عليه السلام قيل : وصف جبريل  بالقدس أي بالطهارة لأنه لم يقترف ذنبا ، وقال الحسن :  القدس هو الله وروحه جبريل  قال الله تعالى : " قل نزله روح القدس من ربك بالحق    ( 102 - النحل )   [ ص: 120 ] وتأييد عيسى  بجبريل  عليهما السلام أنه أمر أن يسير معه حيث سار حتى صعد به الله ( إلى السماء ) وقيل : سمي جبريل  عليه السلام روحا للطافته ولمكانته من الوحي الذي هو سبب حياة القلوب ، وقال ابن عباس   وسعيد بن جبير    : روح القدس هو اسم الله تعالى الأعظم به كان يحيي الموتى ويري الناس به العجائب ، وقيل : هو الإنجيل جعل له روحا كما ( جعل القرآن روحا لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه سبب لحياة القلوب ) قال تعالى : " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا    " ( 52 - الشورى ) فلما سمع اليهود  ذكر عيسى  عليه السلام فقالوا : يا محمد  لا مثل عيسى    - كما تزعم - عملت ، ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت ، فأتنا بما أتى به عيسى  إن كنت صادقا . 
قال الله تعالى : ( أفكلما جاءكم    ) يا معشر اليهود ( رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم    ) تكبرتم وتعظمتم عن الإيمان ( ففريقا ) طائفة ( كذبتم ) مثل عيسى  ومحمد  صلى الله عليه وسلم ( وفريقا تقتلون    ) أي قتلتم مثل زكريا  ويحيى  وشعيا  وسائر من قتلوه من الأنبياء عليهم السلام 
( وقالوا ) يعني اليهود ( قلوبنا غلف ) جمع الأغلف وهو الذي عليه غشاء ، معناه عليها غشاوة فلا تعي ولا تفقه ما تقول ، قاله مجاهد  وقتادة ،  نظيره قوله تعالى : " وقالوا قلوبنا في أكنة    ( 5 - فصلت ) وقرأ ابن عباس  غلف بضم اللام وهي قراءة  الأعرج  وهو جمع غلاف أي قلوبنا أوعية لكل علم فلا تحتاج إلى علمك قاله ابن عباس   وعطاء  وقال الكلبي    : معناه أوعية لكل علم فلا تسمع حديثا إلا تعيه إلا حديثك لا تعقله ولا تعيه ولو كان فيه ( خير ) لوعته وفهمته . 
قال الله عز وجل ( بل لعنهم الله    ) طردهم الله وأبعدهم عن كل خير ( بكفرهم فقليلا ما يؤمنون    ) قال قتادة    : معناه لن يؤمن منهم إلا قليل ؛ لأن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود ، أي فقليلا يؤمنون ، ونصب قليلا [ على الحال وقال معمر    : لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره ، أي فقليل يؤمنون ونصب قليلا ] بنزع الخافض ، و ( ما ) صلة على قولهما ، وقال الواقدي    : معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا كقول الرجل للآخر : ما أقل ما تفعل كذا أي لا تفعله أصلا 
( ولما جاءهم كتاب من عند الله ) يعني القرآن ( مصدق ) موافق ( لما معهم ) يعني التوراة ( وكانوا ) يعني اليهود    ( من قبل ) قبل مبعث محمد  صلى الله عليه وسلم ( يستفتحون ) يستنصرون ( على الذين كفروا ) على مشركي العرب ،  وذلك أنهم كانوا يقولون إذا حزبهم أمر ودهمهم عدو : اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان ، الذي نجد صفته في التوراة ، فكانوا ينصرون ، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين قد أظل زمان نبي يخرج   [ ص: 121 ] بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وثمود وإرم ( فلما جاءهم ما عرفوا    ) يعني محمدا  صلى الله عليه وسلم من غير بني إسرائيل وعرفوا نعته وصفته ( كفروا به ) بغيا وحسدا . ( فلعنة الله على الكافرين    ) 
( بئسما اشتروا به أنفسهم     ) بئس ونعم : فعلان ماضيان وضعا للمدح والذم ، لا يتصرفان تصرف الأفعال ، معناه : بئس الذي اختاروا لأنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق . وقيل : الاشتراء هاهنا بمعنى البيع والمعنى بئس ما باعوا به حظ أنفسهم أي حين اختاروا الكفر وبذلوا أنفسهم للنار ( أن يكفروا بما أنزل الله    ) يعني القرآن ( بغيا ) أي حسدا وأصل البغي : الفساد ويقال بغى الجرح إذا فسد والبغي : الظلم ، وأصله الطلب ، والباغي طالب الظلم ، والحاسد يظلم المحسود جهده ، طلبا لإزالة نعمة الله تعالى عنه ( أن ينزل الله من فضله    ) أي النبوة والكتاب ( على من يشاء من عباده    ) محمد  صلى الله عليه وسلم ، قرأ أهل مكة والبصرة ينزل بالتخفيف إلا ( في سبحان الذي ) في موضعين وننزل من القرآن    " ( 82 - الإسراء ) و حتى تنزل    ( 93 - الإسراء ) فإن ابن كثير  يشددهما ، وشدد البصريون  في الأنعام " على أن ينزل آية " ( 37 - الأنعام ) زاد يعقوب  تشديد ( بما ينزل ) في النحل ووافق حمزة   والكسائي  في تخفيف ( وينزل الغيث    ) في سورة لقمان  وحم عسق ، والآخرون يشددون الكل ، ولم يختلفوا في تشديد " وما ننزله إلا بقدر    " في الحجر ( 21 ( فباءوا بغضب    ) أي رجعوا بغضب ( على غضب    ) قال ابن عباس  ومجاهد    : الغضب الأول بتضييعهم التوراة وتبديلهم ، والثاني بكفرهم بمحمد  صلى الله عليه وسلم والقرآن ، وقال قتادة    : الأول بكفرهم بعيسى  الإنجيل ، ، والثاني بكفرهم بمحمد  صلى الله عليه وسلم  والقرآن ، وقال  السدي :  الأول بعبادة العجل والثاني بالكفر بمحمد  صلى الله عليه وسلم ( وللكافرين ) الجاحدين بنبوة محمد  صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم ( عذاب مهين    ) مخز يهانون فيه . 
				
						
						
