( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( 142 ) وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم ( 143 ) )
صبغة الله ) قال قوله تعالى : ( ابن عباس في رواية الكلبي وقتادة والحسن : دين الله ، وإنما سماه صبغة لأنه يظهر أثر الدين على المتدين كما يظهر أثر الصبغ على الثوب ، وقيل : لأن المتدين يلزمه ولا يفارقه ، كالصبغ يلزم الثوب ، وقال مجاهد : فطرة الله ، وهو قريب من الأول ، وقيل : سنة الله ، وقيل : أراد به الختان لأنه يصبغ صاحبه بالدم ، قال ابن عباس هي أن النصارى إذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر يقال له المعمودي وصبغوه به ليطهروه بذلك الماء مكان الختان ، فإذا فعلوا به ذلك قالوا : الآن صار نصرانيا حقا فأخبر الله أن دينه الإسلام لا ما يفعله النصارى ، وهو نصب على الإغراء يعني الزموا دين الله ، قال الأخفش هي بدل من قوله ملة إبراهيم ( ومن أحسن من الله صبغة ) دينا وقيل : تطهيرا ( ونحن له عابدون ) مطيعون
( قل ) يا محمد لليهود والنصارى ( أتحاجوننا في الله ) أي في دين الله والمحاجة : المجادلة في الله لإظهار الحجة ، وذلك بأنهم قالوا إن الأنبياء كانوا منا وعلى ديننا ، وديننا أقوم فنحن أولى بالله منكم فقال الله تعالى : قل أتحاجوننا في الله ( وهو ربنا وربكم ) أي نحن وأنتم سواء في الله فإنه ربنا وربكم ( ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) أي لكل واحد جزاء عمله ، فكيف تدعون أنكم أولى بالله ( ونحن له مخلصون ) وأنتم به مشركون .
قال سعيد بن جبير : الإخلاص أن يخلص العبد دينه وعمله فلا يشرك به في دينه ولا يرائي بعمله قال الفضيل : ترك العمل لأجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما .
قوله تعالى : ( أم تقولون ) يعني : أتقولون ، صيغة استفهام ومعناه التوبيخ ، وقرأ ابن عامر وحمزة [ ص: 158 ] والكسائي وحفص بالتاء لقوله تعالى : ( قل أتحاجوننا في الله ) وقال بعده ( قل أأنتم أعلم أم الله ) وقرأ الآخرون بالياء يعني يقول اليهود والنصارى ( إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل ) يا محمد ( أأنتم أعلم ) بدينهم ( أم الله ) وقد أخبر الله تعالى أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ( ومن أظلم ممن كتم ) أخفى ( شهادة عنده من الله ) وهي علمهم إبراهيم وبنيه كانوا مسلمين وأن بأن محمدا صلى الله عليه وسلم حق ورسول أشهدهم الله عليه في كتبهم ( وما الله بغافل عما تعملون )
( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ) كرره تأكيدا .
قوله تعالى : ( سيقول السفهاء ) الجهال ( من الناس ما ولاهم ) صرفهم وحولهم ( عن قبلتهم التي كانوا عليها ) يعني بيت المقدس والقبلة فعلة من المقابلة نزلت في اليهود ومشركي مكة طعنوا في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة ، فقالوا لمشركي مكة : قد تردد على محمد أمره فاشتاق إلى مولده وقد توجه نحو بلدكم وهو راجع إلى دينكم فقال الله تعالى : ( قل لله المشرق والمغرب ) ملك له والخلق عبيده . ( يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )
( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) نزلت في رؤساء اليهود ، قالوا لمعاذ بن جبل : ما ترك محمد قبلتنا إلا حسدا ، وإن قبلتنا قبلة الأنبياء ، ولقد علم محمد أنا عدل بين الناس ، فقال معاذ : إنا على حق وعدل فأنزل الله تعالى : ( وكذلك ) أي وهكذا ، وقيل : الكاف للتشبيه أي كما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناهم ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) مردودة على قوله : " ولقد اصطفيناه في الدنيا " ( 103 - البقرة ) أي عدلا خيارا قال الله تعالى : " قال أوسطهم " ( 28 - القلم ) أي خيرهم وأعدلهم وخير الأشياء أوسطها ، وقال الكلبي يعني أهل دين وسط بين الغلو والتقصير لأنهما مذمومان في الدين . [ ص: 159 ]
وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو معشر إبراهيم بن محمد بن الحسين الوراق أنا أبو عبد الله محمد بن زكريا بن يحيى أنا أبو الصلت أنا حماد بن زيد أنا علي بن زيد عن عن أبي نضرة رضي الله عنه قال : أبي سعيد الخدري " هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها وأخيرها وأكرمها على الله تعالى
قوله تعالى : ( قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد العصر فما ترك شيئا إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رءوس النخل وأطراف الحيطان ، قال : " أما إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا ، ألا وإن لتكونوا شهداء على الناس ) يوم القيامة أن الرسل قد بلغتهم ، قال : قلت ابن جريج لعطاء : ما معنى قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس ؟ قال : محمد صلى الله عليه وسلم شهداء على من يترك الحق من الناس أجمعين ( أمة ويكون الرسول ) محمد صلى الله عليه وسلم ( عليكم شهيدا ) معدلا مزكيا لكم ، وذلك أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ، ثم يقول لكفار الأمم الماضية : ألم يأتكم نذير " ( 8 - الملك ) فينكرون ويقولون ما جاءنا من بشير ولا نذير ، فيسأل الله الأنبياء عليهم السلام عن ذلك فيقولون : كذبوا قد بلغناهم فيسألهم البينة - وهو أعلم بهم - إقامة للحجة ، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون لهم أنهم قد بلغوا ، فتقول الأمم الماضية : من أين علموا وإنما أتوا بعدنا ؟ فيسأل هذه الأمة فيقولون أرسلت إلينا رسولا وأنزلت عليه كتابا ، أخبرتنا فيه تبليغ الرسل وأنت صادق فيما أخبرت ، ثم يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا أخبرنا محمد بن إسماعيل إسحاق بن منصور أخبرنا أبو أسامة قال الأعمش أخبرنا أبو صالح عن قال : أبي سعيد الخدري بنوح يوم القيامة فيقال له : هل بلغت ؟ فيقول : نعم يا رب ، فيسأل أمته هل بلغكم ؟ فيقولون : ما جاءنا من نذير ، فيقال : من شهودك فيقول محمد وأمته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فيجاء بكم فتشهدون " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا [ ص: 160 ] شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " قوله تعالى : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجاء وما جعلنا القبلة التي كنت عليها ) أي تحويلها يعني بيت المقدس ، فيكون من باب حذف المضاف ، ويحتمل أن يكون المفعول الثاني للجعل محذوفا ، على تقدير وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة ، وقيل معناه التي أنت عليها ، وهي الكعبة كقوله تعالى " كنتم خير أمة " أي أنتم .
( إلا لنعلم من يتبع الرسول ) فإن قيل ما معنى قوله : " إلا لنعلم " وهو عالم بالأشياء كلها قبل كونها قيل : أراد به العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب ، فإنه لا يتعلق بما هو عالم به في الغيب ، إنما يتعلق بما يوجد معناه ليعلم العلم الذي يستحق العامل عليه الثواب والعقاب ، وقيل : إلا لنعلم أي : لنرى ونميز من يتبع الرسول في القبلة ( ممن ينقلب على عقبيه ) فيرتد وفي الحديث إن القبلة لما حولت ارتد قوم من المسلمين إلى اليهودية ، وقالوا : رجع محمد إلى دين آبائه ، وقال أهل المعاني : معناه إلا لعلمنا من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه كأنه سبق في علمه أن سبب لهداية قوم وضلالة قوم ، وقد يأتي لفظ الاستقبال بمعنى الماضي كما قال الله تعالى تحويل القبلة فلم تقتلون أنبياء الله " ( 91 - البقرة ) أي فلم قتلتموهم ( وإن كانت ) أي قد كانت أي تولية الكعبة وقيل : الكتابة راجعة إلى القبلة ، وقيل : إلى الكعبة قال الزجاج : وإن كانت التحويلة ( لكبيرة ) ثقيلة شديدة ( إلا على الذين هدى الله ) أي هداهم الله ، قال : " وإن " تأكيد يشبه اليمين ولذلك دخلت اللام في جوابها ( سيبويه وما كان الله ليضيع إيمانكم ) وذلك أن حيي بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين : أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس ، إن كانت هدى فقد تحولتم عنها وإن كانت ضلالة فقد دنتم الله بها ، ومن مات منكم عليها فقد مات على الضلالة ، فقال المسلمون إنما الهدى ما أمر الله به ، والضلالة ما نهى الله عنه .
قالوا : فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا ؟ وكان قد مات قبل أن تحول القبلة من المسلمين أسعد بن زرارة من بني النجار ، من والبراء بن معرور بني سلمة ، وكانوا من النقباء ورجال آخرون فانطلق عشائرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : فأنزل الله تعالى ( يا رسول الله قد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ وما كان الله ليضيع إيمانكم ) يعني صلاتكم إلى بيت المقدس ( إن الله بالناس لرءوف رحيم ) قرأ أهل الحجاز وابن عامر وحفص لرءوف مشبع على وزن فعول ؛ لأن أكثر أسماء الله تعالى على فعول وفعيل ، كالغفور والشكور والرحيم والكريم وغيرها ، وأبو جعفر [ ص: 161 ] يلين الهمزة وقرأ الآخرون بالاختلاس على وزن فعل قال جرير : ترى للمسلمين عليك حقا
كفعل الواحد الرؤف الرحيم
والرأفة أشد الرحمة .