الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب النذر فيما لا يملك وفي معصية

                                                                                                                                                                                                        6322 حدثنا أبو عاصم عن مالك عن طلحة بن عبد الملك عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        " 9972 قوله باب النذر فيما لا يملك وفي معصية ) وقع في شرح ابن بطال " ولا نذر في معصية " وقال ذكر فيه حديث عائشة من نذر أن يطيع الله فليطعه الحديث وحديث أنس في الذي رآه يمشي بين ابنيه فنهاه وحديث ابن عباس في الذي طاف وفي أنفه خزامة فنهاه وحديثه في الذي نذر أن يقوم ولا يستظل فنهاه ، قال ولا مدخل لهذه الأحاديث في النذر فيما لا يملك وإنما تدخل في نذر المعصية وأجاب ابن المنير بأن الصواب مع البخاري فإنه تلقى عدم لزوم النذر فيما لا يملك من عدم لزومه في المعصية ; لأن نذره في ملك غيره تصرف في ملك الغير بغير إذنه وهي معصية ثم قال ولهذا لم يقل باب النذر فيما لا يملك وفي المعصية بل قال النذر فيما لا يملك ولا نذر في معصية فأشار إلى اندراج نذر مال الغير في نذر المعصية فتأمله انتهى وما نفاه ثابت في معظم الروايات عن البخاري لكن بغير لام وهو لا يخرج عن التقرير الذي قرره لأن التقدير باب النذر فيما لا يملك وحكم النذر في معصية فإذا ثبت نفي النذر في المعصية التحق به النذر فيما لا يملك ; لأنه يستلزم المعصية لكونه تصرفا في ملك الغير وقال الكرماني : الدلالة على الترجمة من جهة أن الشخص لا يملك تعذيب نفسه ولا التزام [ ص: 595 ] المشقة التي لا تلزمه حيث لا قربة فيها ثم استشكله بأن الجمهور فسروا ما لا يملك بمثل النذر بإعتاق عبد فلان انتهى وما وجهه به ابن المنير أقرب لكن يلزم عليه تخصيص ما لا يملك بما إذا نذر شيئا معينا كعتق عبد فلان إذا ملكه مع أن اللفظ عام فيدخل فيه ما إذا نذر عتق عبد غير معين فإنه يصح ويجاب بأن دليل التخصيص الاتفاق على انعقاد النذر في المبهم وإنما وقع الاختلاف في المعين وقد تقدم التنبيه في " باب من حلف بملة سوى الإسلام " على الموضع الذي أخرج البخاري فيه التصريح بما يطابق الترجمة وهو في حديث ثابت بن الضحاك بلفظ " وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك " وقد أخرجه الترمذي مقتصرا على هذا القدر من الحديث وأخرج أبو داود سبب هذا الحديث مقتصرا عليه أيضا ولفظه نذر رجل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر ببوانة - يعني موضعا وهو بفتح الموحدة وتخفيف الواو وبنون - فذكر الحديث وأخرجه مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة المرأة التي كانت أسيرة فهربت على ناقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الذين أسروا المرأة انتهبوها فنذرت إن سلمت أن تنحرها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم وأخرج ابن أبي شيبة من حديث أبي ثعلبة الحديث دون القصة بنحوه ووقعت مطابقة جميع الترجمة في حديث عمران بن حصين المذكور وأخرجه النسائي من حديث عبد الرحمن بن سلمة مثله وأخرجه أبو داود من حديث عمر بلفظ لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم ولا فيما لا يملك وأخرجه أبو داود والنسائي من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله واختلف فيمن وقع منه النذر في ذلك هل تجب فيه كفارة ؟ فقال الجمهور لا وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية نعم ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك كالقولين واتفقوا على تحريم النذر في المعصية واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة واحتج من أوجبها بحديث عائشة " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " أخرجه أصحاب السنن ورواته ثقات لكنه معلول ; فإن الزهري رواه عن أبي سلمة ثم بين أنه حمله عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة فدلسه بإسقاط اثنين وحسن الظن بسليمان وهو عند غيره ضعيف باتفاقهم وحكى الترمذي عن البخاري أنه قال لا يصح ولكن له شاهد من حديث عمران بن حصين أخرجه النسائي وضعفه وشواهد أخرى ذكرتها آنفا وأخرج الدارقطني من حديث عدي بن حاتم نحوه وفي الباب أيضا عموم حديث عقبة بن عامر " كفارة النذر كفارة اليمين " أخرجه مسلم وقد حمله الجمهور على نذر اللجاج والغضب وبعضهم على النذر المطلق لكن أخرج الترمذي وابن ماجه حديث عقبة بلفظ " كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين " ولفظ ابن ماجه " من نذر نذرا لم يسمه " الحديث وفي الباب حديث ابن عباس رفعه من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين أخرجه أبو داود وفيه ومن نذر في معصية فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ورواته ثقات لكن أخرجه ابن أبي شيبة موقوفا وهو أشبه وأخرجه الدارقطني من حديث عائشة وحمله أكثر فقهاء أصحاب الحديث على عمومه لكن قالوا إن الناذر مخير بين الوفاء بما التزمه وكفارة اليمين وقد تقدم حديث عائشة المذكور أول الباب قريبا ، وهو بمعنى حديث " لا نذر في معصية " ولو ثبتت الزيادة لكانت مبينة لما أجمل فيه واحتج بعض الحنابلة بأنه ثبت عن جماعة من الصحابة ولا يحفظ عن صحابي خلافه قال والقياس يقتضيه لأن النذر يمين كما وقع في حديث عقبة لما نذرت أخته أن تحج ماشية لتكفر عن يمينها فسمى النذر يمينا ومن حيث النظر هو عقدة لله - تعالى - بالتزام شيء والحالف عقد يمينه بالله ملتزما بشيء ثم بين أن النذر آكد من اليمين ورتب عليه أنه لو نذر معصية ففعلها لم تسقط عنه الكفارة بخلاف الحالف وهو وجه للحنابلة واحتج له بأن الشارع نهى عن المعصية وأمر بالكفارة فتعينت واستدل بحديث لا نذر في معصية [ ص: 596 ] لصحة النذر في المباح لأن فيه نفي النذر في المعصية فبقي ما عداه ثابتا واحتج من قال إنه يشرع في المباح بما أخرجه أبو داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأخرجه أحمد والترمذي من حديث بريدة أن امرأة قالت يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف ، فقال أوف بنذرك وزاد في حديث بريدة أن ذلك وقت خروجه في غزوة فنذرت إن رده الله - تعالى - سالما قال البيهقي : يشبه أن يكون أذن لها في ذلك لما فيه من إظهار الفرح بالسلامة ولا يلزم من ذلك القول بانعقاد النذر به ويدل على أن النذر لا ينعقد في المباح حديث ابن عباس ثالث أحاديث الباب فإنه أمر الناذر بأن يقوم ولا يقعد ولا يتكلم ولا يستظل ويصوم ولا يفطر بأن يتم صومه ويتكلم ويستظل ويقعد فأمره بفعل الطاعة وأسقط عنه المباح وأصرح من ذلك ما أخرجه أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أيضا إنما النذر ما يبتغى به وجه الله والجواب عن قصة التي نذرت الضرب بالدف ما أشار إليه البيهقي ويمكن أن يقال : إن من قسم المباح ما قد يصير بالقصد مندوبا كالنوم في القائلة للتقوي على قيام الليل وأكلة السحر للتقوي على صيام النهار فيمكن أن يقال : إن إظهار الفرح بعود النبي - صلى الله عليه وسلم - سالما معنى مقصود يحصل به الثواب وقد اختلف في جواز الضرب بالدف في غير النكاح والختان ورجح الرافعي في " المحرر " وتبعه في " المنهاج " الإباحة والحديث حجة في ذلك وقد حمل بعضهم إذنه لها في الضرب بالدف على أصل الإباحة لا على خصوص الوفاء بالنذر كما تقدم ويشكل عليه أن في رواية أحمد في حديث بريدة " إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا " وزعم بعضهم أن معنى قوله " نذرت " حلفت والإذن فيه للبر بفعل المباح ويؤيد ذلك أن في آخر الحديث " أن عمر دخل فتركت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الشيطان ليخاف منك يا عمر فلو كان ذلك مما يتقرب به ما قال ذلك لكن هذا بعينه يشكل على أنه مباح لكونه نسبه إلى الشيطان ويجاب بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على أن الشيطان حضر لمحبته في سماع ذلك لما يرجوه من تمكنه من الفتنة به فلما حضر عمر فر منه لعلمه بمبادرته إلى إنكار مثل ذلك أو أن الشيطان لم يحضر أصلا وإنما ذكر مثالا لصورة ما صدر من المرأة المذكورة وهي إنما شرعت في شيء أصله من اللهو فلما دخل عمر خشيت من مبادرته لكونه لم يعلم بخصوص النذر أو اليمين الذي صدر منها فشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - حالها بحالة الشيطان الذي يخاف من حضور عمر والشيء بالشيء يذكر وقرب من قصتها قصة القينتين اللتين كانتا تغنيان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم عيد فأنكر أبو بكر عليهما وقال " أبمزمور الشيطان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - " فأعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بإباحة مثل ذلك في يوم العيد . فهذا ما يتعلق بحديث عائشة .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية