الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء لكل أهل بلد رؤيتهم

                                                                                                          693 حدثنا علي بن حجر حدثنا إسمعيل بن جعفر حدثنا محمد بن أبي حرملة أخبرني كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال فقلت رأيناه ليلة الجمعة فقال أأنت رأيته ليلة الجمعة فقلت رآه الناس وصاموا وصام معاوية قال لكن رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين يوما أو نراه فقلت ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه قال لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عيسى حديث ابن عباس حديث حسن صحيح غريب والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم أن لكل أهل بلد رؤيتهم

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( بعثته ) أي كريبا ( واستهل علي رمضان ) بضم التاء من استهل قاله النووي يعني بصيغة المجهول ( فرأينا الهلال ) وفي رواية مسلم : فرأيت الهلال ( فقال : أنت رأيته ليلة الجمعة [ ص: 307 ] فقلت : رآه الناس وصاموا وصام معاوية ) وفي رواية مسلم : فقال : أنت رأيته؟ فقلت : نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية ( فقال : لكن رأيناه ) أي فقال ابن عباس : لكن رأيناه ( حتى نكمل ) من الإكمال أو التكميل ( فقلت : ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ قال : لا إلخ ) هذا بظاهره يدل على أن لكل أهل بلد رؤيتهم ولا تكفي رؤية أهل بلد لأهل بلد آخر .

                                                                                                          قال النووي في شرح مسلم : والصحيح عند أصحابنا أن الرؤية لا تعم الناس ، بل تختص بمن قرب على مسافة لا تقصر فيها الصلاة ، وقيل : إن اتفق المطلع لزمهم وإن اتفق الإقليم وإلا فلا . وقال بعض أصحابنا : تعم الرؤية في موضع جميع أهل الأرض ، فعلى هذا تقول : إنما لم يعمل ابن عباس بخبر كريب ؛ لأنه شهادة فلا تثبت بواحد ، لكن ظاهر حديثه أنه لم يرده لهذا وإنما رده ؛ لأن الرؤية لا يثبت حكمها في حق البعيد ، انتهى .

                                                                                                          قوله : ( حديث ابن عباس حديث حسن صحيح ) وأخرجه مسلم .

                                                                                                          قوله : ( والعمل على هذا عند أهل العلم أن لكل أهل بلد رؤيتهم ) ظاهر كلام الترمذي هذا أنه ليس في هذا اختلاف بين أهل العلم . والأمر ليس كذلك .

                                                                                                          قال الحافظ في الفتح : قد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب :

                                                                                                          أحدها : لأهل كل بلد رؤيتهم ، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس ما يشهد له ، وحكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق ، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه ، وحكى الماوردي وجها للشافعية .

                                                                                                          ثانيها مقابله : إذا رؤي ببلدة لزم أهل البلاد كلها وهو المشهور عند المالكية ، لكن حكى ابن عبد البر الإجماع على خلافه ، وقال : أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلاد كخراسان والأندلس .

                                                                                                          قال القرطبي : قد قال شيوخنا : إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع ثم نقل إلى غيرهم بشهادة اثنين لزمهم الصوم .

                                                                                                          وقال ابن الماجشون : لا يلزمهم بالشهادة إلا [ ص: 308 ] لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشهادة إلا أن يثبت عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم ؛ لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد إذ حكمه نافذ في الجميع .

                                                                                                          وقال بعض الشافعية : إن تقاربت البلاد كان الحكم واحدا ، وإن تباعدت فوجهان : لا يجب عند الأكثر ، واختار أبو الطيب وطائفة الوجوب ، وحكاه البغوي عن الشافعي . وفي ضبطه البعد أوجه :

                                                                                                          أحدها : اختلاف المطالع ، قطع به العراقيون والصيدلاني وصححه النووي في الروضة وشرح المهذب .

                                                                                                          ثانيها : مسافة القصر ، قطع به الإمام البغوي وصححه الرافعي في الصغير والنووي في شرح مسلم .

                                                                                                          ثالثها : اختلاف الأقاليم .

                                                                                                          رابعها : حكاه السرخسي فقال : يلزم كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا عارض دون غيرهم .

                                                                                                          خامسها : قول ابن ماجشون المتقدم ، انتهى كلام الحافظ .

                                                                                                          قلت : حديث ابن عباس الذي يشهد للقول الأول أخرجه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه عن كريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام فقال : فقدمت الشام فقضيت حاجتها ، واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال . فقال : متى رأيتم الهلال؟ فقلت : رأيناه ليلة الجمعة ، فقال : أنت رأيته؟ فقلت : نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية ، فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين أو نراه . فقلت : ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال : لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                          قال الشوكاني في النيل بعد ذكر الأقوال التي ذكرها الحافظ ما لفظه : وحجة أهل هذه الأقوال حديث كريب هذا ، ووجه الاحتجاج به أن ابن عباس ، لم يعمل برؤية أهل الشام وقال في آخر الحديث : هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدل ذلك على أنه قد حفظ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه لا يلزم أهل بلد العمل برؤية أهل بلد آخر . واعلم أن الحجة إنما هي في المرفوع من رواية ابن عباس لا في اجتهاده الذي فهم عنه الناس والمشار إليه بقوله : هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو قوله : " فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين " ، والأمر الكائن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما بلفظ : " لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " ، وهذا لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد ، بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين ، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم ؛ لأنه إذا رآه أهل بلد فقد رآه المسلمون فيلزم غيرهم ما لزمهم .

                                                                                                          ولو سلم توجه الإشارة في كلام ابن عباس إلى عدم لزوم رؤية أهل بلد لأهل بلد آخر ، لكان عدم اللزوم مقيدا بدليل العقل وهو أن يكون بين القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع .

                                                                                                          [ ص: 309 ] وعدم عمل ابن عباس برؤية أهل الشام مع عدم البعد الذي يمكن معه الاختلاف عمل بالاجتهاد وليس بحجة ، ولو سلم عدم لزوم التقييد بالعقل فلا يشك أن الأدلة قاضية بأن أهل الأقطار يعمل بعضهم بخبر بعض ، وشهادته في جميع الأحكام الشرعية والرؤية من جملتها ، وسواء كان بين القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع أم لا ، فلا يقبل التخصيص إلا بدليل . ولو سلم صلاحية حديث كريب هذا للتخصيص فينبغي أن يقتصر فيه على محل النص إن كان النص معلوما أو على المفهوم منه إن لم يكن معلوما لوروده على خلاف القياس ، ولم يأت ابن عباس بلفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا بمعنى لفظه حتى ننظر في عمومه وخصوصه ، إنما جاء بصيغة مجملة أشار بها إلى قصة هي عدم عمل أهل المدينة برؤية أهل الشام على تسليم أن ذلك المراد ، ولم نفهم منه زيادة على ذلك حتى نجعله مخصصا لذلك العموم ، فينبغي الاقتصار على المفهوم من ذلك الوارد على خلاف القياس وعدم الإلحاق به ، فلا يجب على أهل المدينة العمل برؤية أهل الشام دون غيرهم ، ويمكن أن يكون في ذلك حكمة لا نعقلها . ولو تسلم صحة الإلحاق وتخصيص العموم به ، فغايته أن يكون في المحلات التي بينها من البعد ما بين المدينة والشام أو أكثر ؛ وأما في أقل من ذلك فلا ، وهذا ظاهر فينبغي أن ينظر ما دليل من ذهب إلى اعتبار البريد أو الناحية أو البلد في المنع من العمل بالرؤية . والذي ينبغي اعتماده هو ما ذهب إليه المالكية وحكاه القرطبي عن شيوخه أنه إذا رآه أهل بلد لزم أهل البلاد كلها ، ولا يلتفت إلى ما قاله ابن عبد البر من أن هذا القول خلاف الإجماع ، قال : لأنهم قد أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كخراسان والأندلس ، وذلك لأن الإجماع لا يتم والمخالف مثل هؤلاء الجماعة ، انتهى كلام الشوكاني فتفكر وتأمل .




                                                                                                          الخدمات العلمية